شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرخاص

ابن بطوطة.. قصة سد حوله الجفاف في سنته الـ43 إلى أرض قاحلة

روايات على لسان «جيران السد» حول جفاف دفع الطيور إلى الهجرة ويهدد البشر

لم يكن أحد يتخيل أن طنجة ومحيطها الغني بالفرشة المائية، ستنضب عيونها، وسيجف «ابن بطوطة» أحد أكبر سدودها، لدرجة أن القاطنين بجوار السد يقطعون مسافات بعيدة للتزود بالماء الشروب، من آخر العيون الموجودة بالمنطقة.
هذه الأزمة المائية الكبيرة التي تحيط بمدينة طنجة المليونية، تعيد إلى أذهان كل الذين صادفتهم الجريدة بمحيط هذا السد، الجفاف الذي ضرب المنطقة خلال تسعينيات القرن الماضي، ووصل الأمر بالسكان إلى درجة التزود بقطرة ماء عن طريق بواخر من منطقة الجرف الأصفر، وهم على بعد أمتار فقط من أضخم سد يحمل اسم الرحالة محمد اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة، ويعتبر أقدم سد محلي بالبوغاز .

طنجة: محمد أبطاش
يعتبر سد ابن بطوطة أحد أقدم السدود المحيطة بالجهة، بعدما تم تشييده سنة 1979، وإلى وقت قريب كان المزود الرئيسي لمدينة طنجة بمياه الشرب والاستعمال اليومي، غير أنه بعد إقامة سد 9 أبريل المجاور، بدأ هذا الضغط يخف عليه، ومع النقص المسجل طيلة السنوات الماضية في نسب التساقطات المطرية، فإن هذا السد بدوره بدأ ينحسر حتى حدود 15 في المائة، بمخزون 4.6 ملايين متر مكعب فقط، وفقا لآخر الإحصائيات الرسمية، ولم يعد يروي حتى عطش القاطنين بجواره.

سماء و«راديو»
إسماعيل البالغ من العمر 56 سنة، من القاطنين منذ عقود بالقرب من سد ابن بطوطة، وككل صباح ينطلق راكبا دابته إلى ضيعته الفلاحية الصغيرة القريبة لمجرى مائي من هذا السد، وعيناه لا تفارقان السماء، وأذناه تلتقط أمواج محطات «الراديو» والذي لا يفارقه هو الآخر، أملا في سماع نشرة طقس بقدوم الأمطار، لعلها «تحيي هذه الأرض الميتة»، على حد قوله.
يقول إسماعيل الذي صادفناه أثناء إنجاز هذا الروبورتاج، إن الوضع بالقرب من السد لم يعد يبشر بالاستمرار في السكن بجواره، قائلا: «لم نعش هذا الجفاف منذ سنة 1994، وهو وضع يصعب التأقلم معه، فإلى الأمس القريب كانت الفرشة المائية غنية بالمياه، ويساهم السد بشكل كبير في هذا الشأن، إذ ما أن تضع فأسك على الأرض حتى تشعر برطوبتها، واليوم كل شيء تغير، ولم يعد يغري السكن قرب السد، ما دام أن جيرانه عطشى، فكيف سيكون الوضع بالمدن القريبة»، يضيف، وهو يتذكر سنوات من الانتعاش المائي بمحيط ابن بطوطة.
هذا الفلاح البسيط الذي يتقوت من خضروات ضيعته الصغيرة، ويتوجه بها كل صباح سبت نحو سوق الزينات المحلي لعرضها للبيع، وكغيره من القاطنين بجوار السد، باتوا يفكرون في الهجرة نحو مناطق أكثر أمانا، وتوفر لهم شروط العيش والاستقرار منها المياه.
وفي ظل بداية انحسار السد وانعدام أولى هذه الشروط بهذه المداشر يقول إسماعيل، فإن الحل سيكون هو البحث عن ملاذ أفضل للعيش، ولن يكون سوى بالهجرة إلى مدينة طنجة، رغم صعوبة التأقلم، «لأننا فتحنا أعيننا على هذا السد ومحيطه، ويصعب التخلي عن أراضينا وذكرياتنا هنا»، يقول إسماعيل.

جيران وعطش وأرض قاحلة
من الغرائب التي وقفت عليها «الأخبار»، أثناء زيارة هذا السد، كون القاطنين بجواره يقطعون مسافات غير هينة، للوصول إلى أقرب الآبار المحلية والتي من شأنها أن تروي عطشهم، فكل الآبار الموجودة بالقرب منهم، جفت عيونها بشكل وصفته روايات من عين المكان بالغريبة، كأن «السر ارتفع»، فمنهم من يلجأ إلى دابته لجلب مياه الشرب والاستعمال اليومي من دواوير مجاورة، ومنهم من يلجأ إلى كل الوسائل المتاحة كالدراجات الهوائية، أو حتى المشي وقطع هذه المسافات أملا في التزود بقطرة ماء.
لا أحد من طنجة ونواحيها الغنية بالفرشة المائية، والتي لا تكاد سدودها تجف، كان يتصور أنه سيعاين وضعية سد ابن بطوطة اليوم وهو شبيه بصحراء قاحلة، هجرته حتى الطيور، فإلى الأمس القريب كانت عدة أنواع من الطيور المهاجرة تحط الرحال بضفاف هذا السد، حسب بعض الباحثين، على رأسها طير الحبار والنحام، متخذة محيطه مكانا لبناء أعشاشها ووضع بيوضها، غير أن اليوم كل شيء تغير، وبات السد شبيها بأرض قاحلة مخيفة، ولم يعد يغري حتى هذه الطيور.
وقد صادفت الجريدة رعاة للأبقار والغنم، أحدهم مسن في عقده الخامس، يحكي بمرارة أنه فتح عينيه على هذا السد، والكل يتحسر عن فقدان الخيرات التي كان يوفرها لهم، من حيث الفرشة المائية، والأودية التي تصب فيه،
«لقد كنا نلعب منذ صغرنا في برك مائية وسط الأودية المجاورة للسد، واليوم في عقدنا الخامس جفت الأودية، ولم تبق في السد سوى نسبة جد ضعيفة من المياه، لا تكفي حتى لسقي ضيعة فلاحية لمدة وجيزة، فما بالك أن نتقاسمها نحن جيران ابن بطوطة».

سنة كارثية وأمل في العرائش
خلال غشت من سنة 2021 كانت نسبة الملء بهذا السد تتجاوز 60 في المائة، وبفارق سنة واحدة، شهد السد انحسارا مخيفا إلى حدود 15 في المائة فقط خلال غشت المنصرم، حيث كان إجمالي مخزون المياه يبلغ في الشهر نفسه من العام الماضي 1050.8 مليون متر مكعب، بمعدل ملء يفوق 61.03 في المائة.
هذه الوضعية المقلقة من حيث نسبة الملء التي بدأت تنقص بشكل مخيف، سبق وحركت مبادرات محمودة من لدن السلطات المختصة بطنجة، بمعية المتدخلين، بمن فيهم وكالة حوض اللوكوس الوصية على السدود، لتوفير الأمن المائي لأزيد من مليون نسمة بمدينة طنجة.
وإذا كانت هذه الحسرة على جفاف هذا السد قد أصابت الجميع، فإن القلق المتعلق بأزمة العطش أطل على مدينة طنجة بشكل متكرر، وهو ما جعل السلطات الوصية والمتدخلين يستبقون الأزمة واللجوء إلى سد خروفة بإقليم العرائش، وهو ما مكن من تأمين احتياجات أزيد من مليون نسمة بطنجة، ليتم بعد تقييم هذه الوضعية، ربط منظومة تزويد مدينة طنجة بالماء الشروب بحقينة سد دار خروفة بالعرائش، لجلب حجم إضافي يقدر بـ50 مليون متر مكعب في السنة، انطلاقا من شهر فبراير 2021.

تحديات تعمق الأزمة
تشير بعض المعطيات المتوفرة إلى أنه في حال استمرار التغيرات المناخية بسبب احترار الأرض، فإن الموارد المائية للجهة معرضة للتناقص بشكل خطير، وحسب نتائج السيناريو المتشائم لمستقبل الجهة، وفق المعطيات ذاتها، والذي يتوقعه مجموعة من الخبراء الدوليين في المناخ ، فإن العجز المائي سيصل إلى 60 في المائة مقارنة بالسنة العادية للتساقطات، وذلك بسبب ارتفاع درجة الحرارة بمعدل 0.16 درجة مئوية كل عشر سنوات منذ السبعينيات، ناهيك عن ارتفاع درجة الحرارة إلى 3.7 درجات مئوية إلى غاية سنة 2030، وإلى حدود 6.2 درجات في سنة 2080. وتشير المعطيات إلى أن الفصل الحار زادت مدته بـ15 يوما، كما أنه خلال الـ35 سنة الأخيرة عرفت الجهة 20 سنة جافة.
والنتيجة أن الجهة ستعرف ظاهرة الإجهاد المائي، إذ سيصل المعدل إلى أقل من 500 ملم للفرد سنويا في السنوات القادمة، بعدما كان أكثر من 1800 ملم للفرد في بداية السبعينيات. ومن الملاحظ وفقا لبعض المؤشرات، أن بوادر التغيرات المناخية بدأت منذ السنوات الأخيرة تتغير، وبالتالي أصبح الكل ملزما بالتحرك ومواجهة التحديات المتعلقة بالماء من الآن.

تعلية حاجز السد
لضمان تزود المدينة بالماء الصالح للشرب مستقبلا انطلاقا من هذا السد، سيتم العمل على تعلية حاجزه، حتى يتسنى أن يكون البديل، في حال تراجعت حقينة سد دار خروفة في العرائش، بحيث سيمكن هذا المشروع من رفع حقينة السد من 25 إلى 70 مليون متر مكعب، نظرا إلى وجوده في منطقة معروفة بالفيضانات، إلى جانب أودية قادمة من جبال محيطة بتطوان وغيرها من المدن، وبالتالي لا يمكن الاستهانة به، في حال زيادة علوه.
هذا التحدي الجديد، حسب بعض المصادر العارفة بقطاع الماء بطنجة، والذي سبق وأن طُرح للنقاشات على طاولة الجهات المختصة محليا، أضحى مستبعدا، نظرا إلى آثاره السلبية، منها تعرض محمية تهدارت للجفاف الدائم، وهي منطقة رطبة مصنفة ضمن محميات رامسار، وتصل مساحتها إلى 14 ألف هكتار، وهي قريبة من هذا السد، وتعتبر أكبر المحميات بشمال المملكة، فضلا عن فرضيات حول جفاف فرشة شرف العقاب، التي تتغذى من المياه السطحية للمنطقة الرطبة لتهدارت، وهي فرشة فريدة من نوعها على المستوى العالمي، وسبق أن تمت الدعوة إلى الحفاظ عليها، بل العمل على تصنيفها ضمن التراث العالمي من قبل اليونيسكو. ورغم هذه التحديات، فإن نقاشات ما زالت قائمة لإيجاد أفضل الحلول دون المساس بالمحمية المذكورة، فضلا عن الفرشة المائية لشرف العقاب هي الأخرى، تشدد المصادر نفسها.

317 مليون درهم لإنجاز سدود تلية
أعلنت وكالة حوض اللوكوس، أخيرا، أنه تمت برمجة إنجاز 7 سدود صغرى وأحواض تلية على مستوى جهة طنجة- تطوان – الحسيمة، بغلاف مالي إجمالي يصل إلى 317 مليون درهم.
وإذا كانت هذه السدود التلية كمجهود في إطار هذه الأزمة، فإنها موجهة بالأساس إلى عدة مدن جهوية بطنجة، ولا تخص البوغاز المليونية، وفي هذا الصدد، فتقارير سبق وأن نبهت إلى أن الحل لتدارك الأمر هو تشييد سدود تلية بضواحي طنجة، على الرغم من أن المشروع كان قائما بالفعل، غير أنه سرعان ما التهمته العقارات، فقد عرفت منطقة طنجة خلال سنوات الجفاف إحداث خمسة من السدود التلية من الحجم المتوسط، في إطار الشراكة مع الحكومة الإيطالية التي تولت إنشاء تلك السدود وتجهيزها، ويتعلق الأمر بالسدود الثلاثة المجودة في منطقتي أحمار والمغاير، والتي كانت مخصصة لتخزين المياه السطحية من أجل سقي الأراضي الفلاحية بسهل بوخالف، الذي فتح أمام البناء وخصصت أراضيه لاستقبال ما يعرف بمدينة العرفان حاليا.
هذا الإهمال لهده السدود التلية، تقول تقارير صادرة عن رابطة الدفاع عن حقوق المستهلكين بطنجة، أصبحت اليوم ضمن الحلول الناجعة، لتدارك الموقف وإعادة إحياء تلك السدود، باعتبارها ملكا عموميا، والحفاظ عليها من أجل الحاجة، وتحويل محيطها إلى فضاءات طبيعية، بعد القيام بتشجيرها وتسييجها وحمايتها من الترامي العقاري، إذ في الوقت الذي يهدد الجفاف المائي السدود المحلية، فإن التوقعات الرسمية أكدت تسجيل تضاعف الطلب على الماء بطنجة، وسيصل إلى 155 مليون متر مكعب في أفق سنة 2050.

مؤطر

الطلحي: حاجيات طنجة السنوية من مياه الشرب تصل 77 مليون متر مكعب
يقول أحمد الطلحي، وهو دكتور خبير في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية، ومسؤول سابق بالمجلس الجماعي لطنجة عن ملف الماء والبيئة، إن الحاجيات السنوية من المياه الصالحة للشرب لمدينة طنجة تصل إلى 77 مليون متر مكعب، وبسبب توالي سنوات الجفاف، فإن الموارد الحالية لا تكفي، فحقينة سد 9 أبريل فيها أقل من الربع، كذلك سد ابن بطوطة الذي يعرف بسعته التي تقدر بـ25 مليون متر مكعب، فهو الآخر أقل من الربع.
في المقابل فإن طنجة اليوم تتزود بالمياه الشروب انطلاقا من سد دار خروفة بجماعة زعرورة بالعرائش، وبالرغم من التخوفات المصاحبة، خاصة وأن المدينة عرفت خلال تسعينيات القرن الماضي خصاصا مائيا كبيرا، وكان يتم جلب المياه من الجديدة عبر البواخر، وضخها في قنوات أقيمت في الميناء ومن ثم إلى محطة المعالجة، فإن الوضع مختلف تماما، حسب الطلحي، حاليا خلال السنة الجارية والسنة المقبلة، نظرا إلى كون المدينة تتزود من أربعة مصادر للمياه، بعدما كانت فقط ثلاثة. وكما تم إيضاحه، حسب الطلحي، هناك عدة تحديات تعرفها الجهة في ما يتعلق بقضية الماء، إلا أنه بالمقابل لا نجد اهتماما كبيرا من قبل المجتمع المدني المحلي بها. نعم، نسمع بعض الأصوات تتعالى عند انقطاع الماء عن المنازل في بعض الفترات، ولكن لا نسجل تقريبا أي مبادرات وأنشطة ترافعية أو تحسيسية، أو اقتراح إجراءات ومشاريع، أو إبداء الرأي في البرامج الحالية والخطط المستقبلية، يقول الطلحي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى