شوف تشوف

الرأي

إني أعلم مالاتعلمون

بقلم خالص جلبي
من أجل رؤية التاريخ بشكل ديناميكي لابد من الذهاب إلى بطن التاريخ لنقرأ تاريخ العلم ليس مجزاً ميتاً بل مرتبطاً بالأحداث الكونية العظمى، فالحياة تأبى أن تمشي إلا كياناً حياً مترابطاً. علينا أن نتمتع بعقلية مزدوجة واحدة على (التراث) والأخرى على (المعاصرة). يجب أن نرسخ قاعدة (إذا لم نعرف نحن أين فلا يمكن التوجه إلى أين؟) أينما كنتَ فلا يمكنك أن تتوجه للمكان الجديد ما لم تُحدد الإحداثيات. ونحن علينا أن نحيط بالتطورات التي حدثت وبأحدث المعلومات. ما لم ندرك إضافات المعرفة الإنسانية وذيولها الفلسفية فلا يمكن أن نساهم فضلاً عن التفوق وتقديم الجديد. وهي مهمة مؤلمة مثل شرب الدواء المرّ. إن القرآن نسخ وألغى وشطب (العقلية الآبائية) وهو الذي طبقه رواد البحث العلمي في الغرب (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون).
إن العقلية الإبراهيمية هي تلك العقلية الفذة التي تخاطب: (قال: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين!) إن عقلية من هذا النوع وفي هذا الشكل من التحرر العقلي لم تستطع حتى النار من التأثير فيها (قلنا يا نار كوني برداً  وسلاماً على إبراهيم).

انهيار الفكر الآبائي في أوربا
كانت الصفعة الأولى للفكر التقليدي الآبائي هي محاولة (كوبرنيكوس) فهم الكون على نموذج جديد، وبذلك خطا العلم خطوته الجريئة الأولى (وكان الرجل كاهنا!). ومن الغريب أن نموذج الكون الذي كانت الكنيسة قد تبنته من العالم اليوناني القديم (بطليموس) لا يوجد له نص واضح في العهد القديم أو الجديد، كل ما في الأمر أنه يسند تأويلات معينة للنص عندهم، وتفعل الكنيسة الآن نفس الغلطة مع التطور العلمي الجديد. ولم تستفد من درس التاريخ، فهي قد تبنت الآن نظرية (الانفجار العظيم) (BIG BANG THEORY) التي يجب تخصيص مقالة كاملة عنها لأهميتها العلمية والفلسفية؛ فهي مازالت في طور النظرية، ونأمل أن لا تقع الكنيسة في حماقتها القديمة فتحرق المخالفين بالنار أو الهرطقة!
وكانت الصفعة الرائعة الثانية للعقلية (الآبائية) تلك التي جاءت من طاولة (أوتو هان) العالم الكيميائي الألماني (OTTO HAHN) المتواضعة، حيث أمكن التخلص من التراث اليوناني، ومن مسلمة (الآتوم) ومعناها اليوناني الجزء الذي لا يتجزأ (ATOM)، حين أمكن شطر الذرة، والدخول إلى العالم الفيزيائي الجديد، ثم الانتقال منه إلى الفيزياء دون الذرية وبناء العلم الجديد (ميكانيكا الكم) ثم توليد قانون (الارتياب) منه في مستوى العالم الصغير. والآن يكرر العلم نفس الشيء حين يوجه الضربة القاضية للفيزياء التقليدية الكلاسيكية، تلك التي دشنها نيوتن وعصر نيوتن من عقول العشرات من العلماء الذين دشنوا العلم التجريبي، من أمثال بيكون وغاليليه وديكارت وليبنتز وباسكال وتوريشيلي وافوكادرو وكبلر؛ حيث يبنى صرح الفيزياء اليوم على النسبية العامة التي اطلقت علم الكوسمولوجيا (COSMOLOGY) الحديث، وميكانيكا الكم (QUANTUM THEORY) التي أطلق ثورة الإلكترونيات؛ بل إن أعظم جهد علمي وأكبر تحدّ يواجه العلماء هو في محاولة دمج النسبية العامة مع ميكانيكا الكم، بحيث يمكن الخروج بنظرية توحيدية لفهم الكون، ذي القوة أربعين، أي الصعود للأعلى عشرة قوة 24 والنزول إلى الأسفل عشرة قوة 16 (10 مضروبة في 40) وهي حواف الكون الأصغر (MICROCOSMOS) والكون الأكبر (MACROCOSMMOS) الذي نستطيع معرفته في الوقت الراهن؛ حيث تم الكشف عن مائة مليار مجرة (GALAXY) من أمثال مجرة الطريق الحليبي (MILK WAY) التي نعيش فيها، والتي تضم بدورها حوالي مائة مليار نجم مشع مثل الشمس التي تمدنا بالضوء والدفء، منذ ما يزيد عن خمسة مليارات سنة، ومرشح لها أن تعيش بنفس الكمية من الزمن، مع العلم أن الحياة الإنسانية الفعلية ممثلة في الثورة الزراعية لم تبدأ إلا قبل عشرة آلاف سنة؛ فماذا ينتظر الإنسان بعد عشرة آلاف سنة ياترى؟

حوار الله والملائكة
لقد حصل حوار في القرآن بين الله والملائكة حيث رأت الملائكة في هذا الكائن أنه مجرم قاتل مدمر مفسد !! (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) فالإنسان كائن لا ينتظره مستقبل! بالطبع رأت الملائكة في الإنسان ما رآه موسى في عمل الرجل الصالح المحكي عن قصصه العجائبية ومغامراته اللامعقولة، حين قفز موسى مخالفاً كل شروط اللعبة: إلى أين أنت ذاهب ما الذي تفعله؟ مع أن قواعد اللعبة واتفاق الرحلة كانت سكوتا فلا سؤال، وتأملا فلا اعتراض، وثالثاً: أنا الذي سأشرح كل شيء لك لاحقاً! إلا أن الواقع أكبر أمام ما يحدث فهو حيناً يثقب (يفسد) السفينة التي يبحر فيها الناس ويعرضهم للغرق؟!. وبعد حين يقوم بقتل طفل ٍ لا ذنب له ظاهرياً! فكيف يمكن لموسى أن يستوعب البانوراما الكونية كلها ليدرك أن حكمة هائلة خلف هذا المنظر المرعب،  وأن صلاحاً كبيراً خلف هذا الفساد الظاهري (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا)؟!
لذا كان جواب الله للملائكة أنه عنده من العلم عن طبيعة هذا الكائن غير المنظر الخارجي له، والعبث الصبياني، والإفساد غير المبرر، والقتل النافي للحياة، لأن هناك نضجاً ينتظره، وكمالات في طريق رحلة الصعود. إني أعلم ما لا تعلمون … ثلاث كلمات لا أكثر تحمل اللغز الإنساني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى