كانت مفاجأة سارة أن تزف إلينا، إسبانا ومغاربة، بشرى المصالحة بين البلدين، مساء الجمعة الماضي، عبر بلاغ للديوان الملكي المغربي ينبئ بمضامين رسالة وجهها إلى جلالة الملك محمد السادس رئيس الحكومة الإسبانية، وبلاغ آخر صدر عن الحكومة بمدريد، تضمنا معا معالم الميثاق الجديد الذي ينوي البلدان أن يربط بينهما، بحيث تعترف إسبانيا أخيرا بما تفرضه عليها الحقائق الراسخة للجيوستراتيجيا، بخصوص حيوية المغرب وضرورته. ففي ما يشبه العودة إلى جادة الصواب، كان القرار الذي أفصح عنه رئيس الحكومة الإسبانية أكثر من تاريخي، لأنه جسد تحولا جذريا في موقف الدولة المستعمرة سابقا للصحراء المغربية، وكشفا صحيحا لموازين القوى الجديدة إقليميا، بالشكل الذي أضحى يفرضه زخم الإنجازات الدبلوماسية المغربية.
إسبانيا والمغرب بلدان حكم عليهما بأن يتلاقحا ويتفاعلا ويحتكا، فهما بلدان متقابلان على ضفتي البحر المتوسط، شكلا في ما مضى، وفي أروع تجربة حضارية عرفها العالم، نموذجا فريدا لتمازج الثقافتين الشرقية والغربية، بلدان تحتم عليهما عوامل التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك، التفاهم والتعاون. فكلا البلدين عمق استراتيجي ومجال حيوي للآخر، وكلاهما يرهن أمن وازدهار الآخر، ولذلك عندما تذهب رسالة سانشيز نحو التأكيد على اعتراف إسبانيا بأهمية قضية الصحراء بالنسبة إلى المغرب، فإن ذلك دليل على المخاض الذي مر منه القرار الإسباني، قبل أن يتشكل على هذا النحو ويهتدي إلى المفتاح الذي ستدلف به إسبانيا من جديد إلى شغاف قلب المملكة المغربية، وتستعيد ودها المفقود. إن إسبانيا قد أحكمت مصالحتها معنا هذه المرة، ولم تترك لنا سوى أن نبادلها الخطوة الشجاعة بخطوات مثلها، تصب بالتأكيد في تحقيق رخاء ورفعة البلدين.
هكذا تكون إسبانيا بهذا القرار قد أضحت منسجمة مع التوجه الدولي العام، الذي يجنح نحو تأكيد السيادة المغربية على الصحراء، خصوصا بعد الاعتراف الأمريكي الحاسم بهذه السيادة. فمن الواضح أنها قد أيقنت أن داء الانفصال معد، وأنه مضر للسلام والأمن، اللذين ينشدهما العالم. وبذلك يكون اصطفافها إلى جانب الطرح المغربي، الداعي إلى تمتيع أقاليمنا الجنوبية بالحكم الذاتي، واعتباره حلا واقعيا مستداما وذا مصداقية، اعترافا منها بسيادة المغرب على صحرائه، وإذعانا صريحا لما تعرفه حق المعرفة، مما لديها من وثائق وخبرة بالتاريخ الحقيقي للمنطقة بمغربية الصحراء.
ولعل إسبانيا قد أعملت بعد طول تردد الواقعية السياسية، فراجعت طوال هذه السنة مجموع الأحداث والملابسات التي طبعت توتر علاقتها الدبلوماسية مع المغرب، ولاحظت الحكمة التي تصرف بها المغرب في التعامل مع الوقائع، حيث لمست تماهي العرش والشعب المغربيين، بخصوص قضية الوحدة المغربية. ورب ضارة نافعة كما يقول المثل العربي، إذ نكتشف اليوم كيف شكلت استضافة المدعو إبراهيم غالي بالديار الإسبانية، فرصة لإسبانيا لكي تتعرف على مقدار الامتعاض والمضاضة والأذى، الذي يتسبب فيه تصرف غير محسوب.
إن المغرب لا يفكر في معاداة إسبانيا، وهو الآن لا يطلب منها سوى تعميق أواصر المحبة، وتحقيق المصالح المشتركة، وبناء العلاقات الشفافة الصادقة التي تقوم على الاحترام والتقدير والندية المثمرة، التي تجعلهما معا يبدعان في ضمان الاستقرار لمنطقة شمال إفريقيا وجنوب أوروبا.
المغرب قدر دائما حساسية إسبانيا تجاه الدعوات الانفصالية، ورغم حيادها الذي كانت تقول عنه إنه إيجابي بخصوص ملف صحرائنا المغربية، تورع دائما عن أن يعاملها بالمثل، لأن له موقفا مبدئيا من الحركات الانفصالية، التي يرى أن لا مصلحة للعالم بأسره من مجاراتها أو تغذيتها، كونها تصب غالبا في أتون التطرف والإرهاب.
كانت إسبانيا ترى في المغرب باستمرار ما نصطلح عليه في العلاقات الدولية بالصديق العدو، أي ذاك البلد الذي يجعل منها شريكه الاقتصادي الأول، والبلد الذي يحميها من تدفقات المهاجرين، ومع ذلك فهو في الوقت نفسه بالنسبة إليها، البلد الذي تتوجس منه وتحتاط منه، كي لا ينافسها في استقطاب الصداقة الأمريكية، والبلد الذي تضع له الحصى في حذائه من خلال تبنيها لطرح الاستفتاء منتهي الصلاحية لجماعة البوليساريو المتهاوية، لشغله وثنيه عن التحول إلى قوة إقليمية، كما تؤهله لذلك إمكاناته وطموحاته المشروعة. ويقع كل هذا من طرفها، في الوقت الذي كان فيه المغرب المسالم والواثق من نفسه، يمد لها اليد دائما، ويبرهن لها أنه البلد الذي يمكن التعويل على استقراره، وبالتالي على صداقته وتعاونه. وبالتالي أن تصير بجانبه لا أن تظل في وجهه.
الآن تنقشع الغشاوة عن عين إسبانيا، وتنتصر للود المغربي الذي لم تكن تراه، وينزاح كل سوء الفهم الذي عمر طويلا بيننا، فتتبنى مقاربة جديدة لطالما توخيناها في المغرب، والتي سنجني بالتأكيد ثمارها جميعا.
ولذلك من حقنا الآن أن نفرح بكون الأزمة المغربية الإسبانية قد صارت وراء ظهورنا، بعد بيان الديوان الملكي المغربي، المرحب بقرار حكومة مدريد فتح صفحة جديدة معنا، ملؤها التنسيق والتعاون. وإنه ليتعين علينا أيضا، ومن اليوم، الدفن النهائي لشنآن المماحكات القديمة، والاستثمار في رمزية المحطات المضيئة للتاريخ المشترك بيننا، للنظر والتطلع بكل وثوقية إلى المستقبل.
نافذة:
إسبانيا بهذا القرار قد أضحت منسجمة مع التوجه الدولي العام الذي يجنح نحو تأكيد السيادة المغربية على الصحراء خصوصا بعد الاعتراف الأمريكي الحاسم بهذه السيادة