إسبانيا تصغي إلى النبض العربي
أمام اللجنة الرابعة في الأمم المتحدة، جاهر مندوب المغرب إدريس السلاوي، الذي كان يزن كلماته سياسيا وقانونيا، بأن العالم لن يتقبل استمرار الاحتلال الإسباني للمدينتين المغربيتين سبتة ومليلية والجزر التابعة لهما. موضحا أن هذه المناطق «تعتبر قانونيا وتاريخيا آخر المواقع المحتلة في شمال إفريقيا».
حدثني دبلوماسي مغربي عمل إلى جانب المستشار إدريس السلاوي، عن أنه قبل مداخلته أمام اللجنة الرابعة والعشرين، اجتمع إلى مندوبين في الأمم المتحدة. ونقل عنه القول للأمريكيين إن الاتحاد السوفياتي لا يمكنه إلا أن يؤيد طلب المغرب في استرداد سيادته على أراضيه المحتلة على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط. أقله أن سيطرة إسبانيا، العضو في الحلف الأطلسي، على ضفتي البحر تثير تحفظات استراتيجية في رقابة حركة الملاحة في منطقة حيوية.
بعلاقة مع مستقبل الصراع على صخرة جبل طارق، كانت الرباط تميل إلى دعم الموقف الإسباني، بل إنها رهنت في مناسبات عدة فتح ملف المدينتين المحتلتين بالتوصل إلى صيغة نهائية تضمن لمدريد بسط سيادتها على الصخرة التي تحمل اسم القائد المغربي طارق بن زياد.
ليست المرة الأولى التي أثارت فيها الرباط ملف الثغور المحتلة شمالا، غير أن التوقيت وصيغة الخطاب أكسبا المرافعة المغربية زخما قويا. وفيما كانت حكومة مدريد تخطط لتغيير الوضع القانوني لإقليم الساقية الحمراء ووادي الذهب، فوجئت بصلابة الموقف المغربي الذي لوح بكل الخيارات المتاحة، من أجل استعادة الحقوق الشرعية.
رغبت مدريد في فرض الأمر الواقع على المغرب، وفي كل فترة تصل المواجهات الدبلوماسية إلى الباب المغلق، تسارع إلى إقحام أطراف أخرى، بدعوى أنها معنية أو مهتمة، حتى صارت الفكرة فضفاضة وقابلة لمختلف التأويلات. لعلها استوحت من أسلوب إغراق الملفات الواضحة في أعمال اللجان التي تنبثق منها لجينات، مقولة «الأطراف المعنية»، بهدف إقحام أكبر عدد ممكن لإتلاف جوهر المشكل الذي يخص قضية محددة، اسمها الجلاء عن أراض مغربية احتلتها إبان فترات التمدد الاستعماري الذي لا تشرف فظائعه أحدا، بمن فيهم الأكثر راديكالية وتشددا.
تعود الواقعة التي كانت لجنة الأمم المتحدة مسرحا لها، إلى مطلع العام 1975. وقبلها سمع الجنرال فرانكو ما لم يكن يرضي سياسته، إلى المستوى الذي دفعه إلى التفكير في أي وسيلة تروم لجم المارد المغربي الساعي لوضع حد نهائي للمناورات الاستعمارية. لكن القدرة كانت تعوزه لأكثر من سبب داخلي وإقليمي. وعندما صدرت توصيات من قمم عربية وإفريقية وإسلامية ودول عدم الانحياز تحض الحكومة الإسبانية على الدخول في مفاوضات مع المغرب للجلاء عن المناطق التي تحتلها.. أدرك إسبان نبهاء أن الدعم العربي القوي الذي تحظى به الرباط، لن يتوقف عند هذا الحد.
فالكتاب الذي يدل عليه عنوانه، كان يشي بنهاية فترة حكم الجنرال فرانكو، ليس لأنه كان طريح الفراش في الهزيع ما قبل الأخير لحكمه، ولكن لأن إسبانيا كانت تتطلع إلى الجديد، وسعت جاهدة، بالرغم من كل شيء، لإحلال صورة جديدة بنظام يتلمس طريق الديمقراطية، وفي القاعدة أن الانفتاح الذي يبدأ داخليا يكون له امتداد إقليمي وخارجي، يتسع لأن يشمل علاقات الجوار، وإن بتردد لافت.
كان على إسبانيا أن تبدو أقرب إلى الإصغاء إلى نبض العالم العربي، كونه الأقرب إلى تاريخها وثقافتها وحضورها، وكانت الأصوات المتزمتة تتراجع بعض الشيء أمام استقراءات منهجية لأوضاع المرحلة أوروبيا وعربيا وإفريقيا ودوليا.
لم تكن البلدان الأوروبية والغربية استفاقت من صدمة «حرب النفط» التي تداعت لها الأجساد بالارتعاش بردا، كما المصانع وشرايين التجارة وتدفق البضائع. وخشيت مدريد من أن تدفع ثمن تعنتها باهظا، في مرحلة شكل فيها التحالف المغربي – الخليجي – المصري محورا مؤثرا. كان يكفي أن يصدر اتحاد المحامين العرب بيانا داعما للرباط فتهتز الأسلاك والمشاورات. ولما باشر المغرب الانطلاق بدرجة سرعة متواترة للبحث في كيفية إرساء سلام عادل ودائم ونهائي في الشرق الأوسط، فهمت إسبانيا في المقام الأول أن من ينشد السلام في أبعد نقطة، لا يمكنه أن يتقبل عدم العيش في سلام ووئام مع جيرانه الإقليميين.
يفرض التعايش في سلام الإذعان لاحترام الحقوق المشروعة للدول، وما لم يتقبله كثيرون في تلك المرحلة، أن التجربة التي أقدم عليها المغرب لاسترجاع أراضيه المغتصبة، عبر المفاوضات وتكريس منهجية الحل السلمي، طرح سابقة في صراعات مماثلة، وكانت المرة الأولى التي تمكنت فيها دولة عربية وإسلامية من تحرير أجزاء من أراضيها، من دون إراقة دماء. لذلك فإن السياق الذي ترتديه تطورات الأحداث لما بعد سنة 1975، سيتم من خلاله التركيز على محاولات جديدة لتفتيت كيانات دول عربية.
أهي مصادفة لهذا الحد أن تكون الحرب الأهلية التي عاشتها لبنان ترافقت واندلاع التوتر المفتعل حول قضية الصحراء؟ أهي حرب الأوغادين وغيرها من أنماط التوترات جاءت صدفة؟ بالتأكيد أن الأشياء كان يجري التخطيط لها.
وحين قال المستشار إدريس السلاوي إن إسبانيا لا يمكن أن تخفي رأسها في الرمال، كان يعرف ما يقوله بالتحديد. فقد اقتبست الرباط من منظومة التفكير الإسباني فكرة المقايضة لتثبيت وضعها في سبتة ومليلية، وسجل ضمن وثائق الأمم المتحدة أن المدينتين والجزر التابعة لهما في الحسيمة والنكور، لابد أن يعودا إلى أصلهما، فهناك مطالب لا يعتريها التقادم، لكن السياسة تبقى في تجلياتها المبدعة مرتبطة بالتوقيت.