أحس إدريس لشكر أن شقا من الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح البرلمان كان موجها إليه، خصوصا عندما تحدث الملك عن المشككين في نزاهة العملية الانتخابية. فحزب إدريس لشكر أصدر بلاغا يصف فيه العملية الانتخابية بالفاسدة برمتها، مهددا بالويل والثبور وعظائم الأمور.
والحال أن الخطاب الملكي كان موجها إلى كل مكونات الطبقة السياسية، بدءا برئيس الحكومة الذي اتهم حزبا باستعمال عائدات الكوكايين في الانتخابات، ومرورا بنبيل بنعبد الله الذي طالب بإلغاء مؤسسة مجلس المستشارين، ووصولا إلى شباط الذي تم إخراجه من فاس فأعلن سقوطها في يد “داعش”، دون أن ننسى وزير العدل الذي اتهم دونما دليل في برنامج مباشر أطرافا سياسية باستعمال المال في الانتخابات.
إذن أية ذبابة لسعت إدريس لشكر حتى يعتبر نفسه المعني الوحيد بتقريع الملك، إلى حد جمع شبيبته المكونة من خلانه المقربين وندمائه، لكي يدبجوا بلاغا يقولون في نهايته إن حزبهم ليس بحاجة لتلقي الدروس من أي أحد؟
أعتقد أنه لفهم تحولات إدريس لشكر علينا التقاط جملة في عمود حميد جماهري، رئيس تحرير «الاتحاد الاشتراكي»، قال فيها «أعتقد أن الخلاف لم يعد في أن نعرف من يبكي أو من يضحك، بل من يكون دوره الآن للشعور بالخديعة ومن سيأتي عليه الدور غدا».
لشكر إذن يتجرع الخديعة، ويشعر أنه تعرض لمكيدة انتهت به إلى ما هو عليه اليوم، مجرد كتلة هلامية مائعة تتدحرج نحو منحدر سحيق لا قعر له.
لذلك فقد قرر أن «يغلض الهضرة»، وبما أن في فمه ماء فقد كلف شبيبة حزبه بالقيام بالتدبير المفوض للغضب.
لأن هذا بالضبط ما يحس به قيادي الاتحاد الاشتراكي هذه الأيام. وهناك أصوات من داخل الحزب تدعوه صراحة إلى أن يعود إلى كرسي المعارضة لإعادة بناء نفسه و«استرجاع إشعاعه»، ومن أجل ذلك أشهرت شبيبة الحزب بطاقة الملكية البرلمانية وجثة المهدي بنبركة كفزاعتين لإخافة النظام.
ولكي نفهم فحوى هذه الرسائل المبطنة، يجب قراءة ما بين السطور في بلاغ شبيبة لشكر الذي احتفى به يونس مجاهد بـ«الفصيح» على صدر الصفحة الأولى لجريدة الحزب.
فالبلاغ يتحدث عن نقطتين أساسيتين هما ضرورة إشراك الجماهير الشعبية في جميع تطورات ملف الصحراء، وضرورة كشف الدولة عن أوراق ملف المهدي بنبركة.
عندما قلنا في عمود سابق إن الاتحاد الاشتراكي يجيد عادة «التقلاز من تحت الجلابة» فإننا لم نكن مبالغين. هناك أشياء يريد قادة الحزب إيصالها إلى القصر مباشرة، لكنهم دائما يختارون لغة غامضة يختلط فيها الوعد بالوعيد. ولعل افتقار الحزب للجرأة السياسية في التعبير عن مواقفه ومطالبه هي التي أوصلته إلى الحالة التي يوجد عليها اليوم.
أيام الراحل عبد الرحيم بوعبيد كانت لغة الحزب واضحة ولا مواربة فيها. عندما كان عبد الرحيم بوعبيد يقرر قول لا للملك فإنه كان يقولها له بالعلالي. وقد قالها للحسن الثاني وأدى ثمنها من حريته عندما صوت ضد الاستفتاء وتبنى الآية التي تقول «السجن أحب إلي مما تدعونني إليه»، وذهب إلى سجن ميسور.
آنذاك كان الحزب يقول لا ويعرف أن الشعب يسند ظهره. أما اليوم فنتائج الحزب في الانتخابات أظهرت أن الشعب أعطى للحزب ظهره بعد أن أعطاه في السابق صوته ولم يحسن الحزب استعماله.
لذلك فمطلب الملكية البرلمانية الذي يطرحه الحزب اليوم مجددا، لديه سبب واحد، وهو ممارسة الابتزاز، لأنه في كل مرة يجد الحزب نفسه في ورطة يشرع في الحديث عن الملكية البرلمانية ويشرع في الصراخ في وجه الدولة «جبدو لينا بنبركة».
لنقلها صراحة، فكل الأحزاب التي كانت ترفع تهديد الإصلاحات الدستورية في وجه الملكية، ظلت تصنع ذلك من أجل ممارسة الابتزاز ودفع النظام إلى منحها حقائب وزارية ومناصب في المؤسسات العمومية.
وفي كل مرة كانت الخطة تنجح وتقتسم الأحزاب السياسية الحقائب في ما بينها وتخفي وراء ظهرها فزاعة مطلب الملكية البرلمانية إلى وقت لاحق.
ومن تابع معارك إدريس لشكر اليومية من أجل فرض سيطرته الكاملة على الحزب بأذرعه النيابية والنقابية والإعلامية، يعتقد أن لشكر يقود فعلا حزبا حيا، والحال أن منظره يشبه كثيرا منظر الحاجب السلطاني باحماد الذي عندما مات السلطان الحسن الأول أركبه على فرسه وسار به كاتما الخبر عن الجميع إلى أن فاحت رائحة جثة السلطان واضطر با حماد إلى إعلان وفاته.
والواقع أن حزب الاتحاد الاشتراكي مات عمليا عندما أطاح إدريس جطو بعبد الرحمان اليوسفي من حكومة التناوب، وجلب وزراء تكنوقراط لا معاطف سياسية لهم من خريجي مدرسة الطرق والقناطر، لكي يتقاسموا الحقائب الوزارية مع الوزراء الاتحاديين الذين خذلوا عبد الرحمان اليوسفي وتشبثوا بالبقاء في الحكومة للعب دور الكومبارس.
وخلال المفاوضات التي خاضها اليازغي بعد ذهاب اليوسفي غضبان أسفا إلى بروكسيل، حيث ألقى محاضرته التي تحدث فيها عن المس بالمنهجية الديمقراطية، كان إدريس لشكر ينتظر نصيبه من الكعكة الحكومية، غير أن محمد اليازغي الذي أخذ بزمام الحزب، أخبر لشكر بأن هناك اعتراضا على اسمه في الدوائر العليا، ولذلك فلن يكون ممكنا في الوقت الراهن منحه حقيبة وزارية.
مرت مياه تحت الجسر، واستقصى لشكر الخبر من مصادره الخاصة، فكان هناك من أخبره بأن الدوائر العليا لم تعترض على اسمه، ففهم لشكر أن اليازغي «دار ليه الصابونة» فقرر إعلان الحرب عليه، ودفعه إلى الاستقالة من الكتابة الأولى للحزب وحل مكانه عبد الواحد الراضي الذي أخذ حقيبة وزارة العدل، والذي في عهده وصل لشكر إلى منصب وزير العلاقات مع البرلمان، وكانت هذه الفترة أعنف مرحلة في الحرب بين لشكر واليازغي.
وفي كل مرة يختار الزعيمان الاتحاديان المتشاكسان شخوصا معينة لكي يخوضا عبرهم الحرب بالوكالة. وقد وجد اليازغي في الراحل أحمد الزايدي الشخص المناسب للعب هذا الدور، خصوصا بعدما اتفق «رجال اليازغي» في الحزب مع إدريس لشكر إبان المؤتمر الأخير للحزب، على إدخال لائحة أسماء حررها اليازغي في المكتب السياسي للحزب، فقبل لشكر الصفقة قبل أن ينقلب على الزايدي وخيرات ويخبرهما بأن الطريقة الوحيدة للوصول إلى المكتب السياسي هي صندوق الاقتراع في المؤتمر. فقد فهم لشكر أن اليازغي خطط من أجل وضع رجاله في المكتب السياسي بالشكل الذي سيصبح به إدريس لشكر رهينة بين أيديهم لا يفعل شيئا دون إذنهم، بمعنى أن الكاتب الأول للحزب الحقيقي سيكون هو اليازغي وليس لشكر.
وطبعا فإدريس لشكر كان يعرف أن الانتخابات ستحمله هو ورجال ثقته نحو سدة الزعامة، وأن لائحة اليازغي لن تحصل على الأصوات المطلوبة للصعود إلى المكتب السياسي، وهذا ما وقع بالضبط.
ومن ذلك اليوم أعلن اليازغي، عبر أحمد الزايدي ورجاله، العصيان ضد لشكر، إلى أن غرق الزايدي في ضاية جماعة واد شراط ومات ووضع خيرات السلاح وسلم جرائد الحزب للشكر وغادر.
واليوم مع شعور لشكر بالهزيمة والعزلة السياسية، يحاول هذا الأخير التلويح بآخر الأوراق التي في يده لكي يخيف الدولة ويذكرها بأنه لازال قادرا على إحداث الألم بتحريك السكين في الجرح وذلك باللجوء إلى سياسة «تغليض الهضرة».
إن آفة التهديد عند كل هزيمة بإخراج الأسلحة الثقيلة والعتاد المحظور إلى الساحة السياسية، دون أن يتبع هذا التهديد أثر واقعي، هي أن مصداقية صاحب التهديد تصبح في مهب الريح.
وقد وقع لإدريس لشكر ما وقع لذلك الشخص الأبكم المدعو «عبيبيس»، والذي كان يهوى تصنع الغرق في الشاطئ فيبدأ في تحريك يديه كما لو أنه يعزف على كمان حتى يعطي إشارة بأن «الجرة» أخذته، وعندما يسارع الناس إلى نجدته يسبح مسرعا نحو الشاطئ وهو يضحك منهم.
وهكذا ظل «عبيبيس» يصنع لوقت طويل، إلى أن اعتاد الناس على حماقته فلم يعودوا ينتبهون إلى استغاثاته. وذات يوم ذهبت «الجرة» فعلا بالأخ «عبيبيس»، فشرع يحرك يديه لإثارة انتباه السباحين حتى يهبوا لنجدته، لكنهم ظلوا يتأملونه ضاحكين معتقدين أنه يؤدي واحدا من أدواره الكوميدية المعتادة، حتى أن أحدهم قال لزملائه: «هاداك غير عبيبيس كايضرب الجرة».
إلى أن تسببت «الجرة» في غرق «عبيبيس» وموته.
ولذلك فما يصنعه «سيدي بو السناسل» إدريس لشكر اليوم ليس سوى «ضريب الجرة فالخوا»، فلا أحد عاد يصدق تهديداته ووعيده، لأنه لم يكن يوما جادا ولا صاحب قضية.