لا بد من الاعتراف بأن النموذج الصيني في البناء الاقتصادي، منذ منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي، أحدث هـزة في مفاهيمنا عن التنمية ونماذجها والقوى الاجتماعية التي تنهض بمهمات إحداثها وإدارة برامجها.
كان المألوف، عند دارسي الاقتصاد والاجتماع كما عند مهندسي السياسات الاجتماعية- الاقتصادية أن تُعْزى السياسات الاقتصادية الرأسماليّة إلى القوى البرجوازية والدول التي تقوم على السلطة فيها نخب ليبرالية، وأن تُعْـزى السياسات الاقتصادية المسماة اشتراكية إلى القوى الشيوعية أو الاشتراكية والدول التي تتولى فيها السلطة نخب سياسية من هذا المنبت. لكن الصين وضعت، بنموذجها المطبق، حدا لإجرائية هذا التمييز منذ اختارت نموذجا مزيجا من المرجعيتين، منذ بداية عهد زعيمها الثاني دينغ سياو بينغ، وخاصة منذ تشكيل حكومة هواكو ڤينغ في نهايات سبعينيات القرن العشرين.
كان يمكن، دائما، أن تُـلْحَظ ظواهر برزخية بين الرأسمالية والاشتراكية في بعض تجارب البناء الاقتصادي، أو ظواهر الامتزاج بين هذا النموذج وذاك في أخرى. من ذلك أنه، مثلا، حين حصلت الأزمة المالية العالمية في العام 1929، لم تتردد الرأسمالية الأمريكية في أن تأخذ بمبدأ «اشتراكي» هو التخطيط وإشراف الدولة المباشر على الاقـتصاد. في السياق عيـنه، كان في جـملة ما استدخلـته الكينزية في هـندستها الاجتماعية- الاقتصادية للعالَـم الرأسمالي حاجات الطـبقات الوسطـى والطبقات المنتِجة (= الكادحة) إلى الاستفادة من منظومة توزيع الثروة ومن تغطية حقوق اجتماعية لها ظلت مهضومة منذ إقلاعة النظام الرأسمالي في القرن الثامن عشر. وعلى هذه الحاجات، نهض عمران نموذج دولة الرعاية الاجتماعية الذي ساد في أوروبا منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية عقد السبعينيات قبل عودة الليبرالية المتوحشة في العهدين الريغاني والتاتشري.
في المقابل، كان يسع تيارا فكريا عريضا من الماركسيين في العالم أن يشكك في «اشتراكية» الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، المنضوية معه في منظومة الـ«كوميكون»، وأن يتحدث – بدلا من ذلك – عن نظامِ رأسمالية الدولة السائد فيها، وعن طبقات برجوازيات الدولة التي تدير ذلك النظام. كان مألوفا سماع ذلك في يوغوسلافيا، ابتداء، من قِـبَل دُعاة نموذج التسيير الذاتي، ثم لاحقا من قِبل جماعات متباينة من المجالسيين في أنحاء مختلفة من أوروبا والعالم. كما كان مألوفا سماع ذلك من مدارس ماركسية أخرى غير ستالينية: تروتسكية وماوية وعالمثالثية، أو من مفكرين ذوي كبير تأثير مثل هربرت ماركيوز، أو شارل بيتلهايم، أو سمير أمين؛ فلقد قطع هؤلاء – على تفاوت بينهم – بأن النموذج السوفياتي والمُسَڤْـيَت كان رأسمالي الأسس، على عكس ما يدعيه القائمون عليه وينسبونه إليه من هويـة.
تلك حالات اختلط فيها حابل نموذج بنابل آخر، ولم يعترف فيها أهل أي من النموذجين بأنهم يديرون عكس ما يعلنون أنهم يديرونه؛ إذ لم تسلم النخب البرجوازية بأنها تستعير موارد وأدوات اشتراكية لتضخ الحياة في قلب نموذجها المأزوم؛ ولا سلمت النخب الشيوعية بأن نظام الإنتاج في بلدانها رأسمالي تديره الدولة بدلا من الطبقة البرجوازية. وفي هذا يختلف هؤلاء وأولئك عن النخب الحاكمة في الصين التي تسلم جهرا – ومن غير مواربة – بأنها تدير اقتصادا رأسماليا في بلادها، حتى وإن شددت على اتصال ذلك الاقتصاد الذي تشرف عليه بأهداف عليا اشتراكية تبغي تحقيقها. وليس يعنينا، هنا، أن نصدق ما تقوله الصين عن اشتراكية غاياتها من مشروعها التنموي أو لا نصدق، إنما يعنينا أنها تُعلن حقائق نموذجها من غير حَرَج وتخوض فيه بحماسة مصيبة، في ذلك، حظوظا من النجاح غير مسبوقة حتى في أعرق الرأسماليات الغربية، ومن غير أن تتخلى عن قيادة «الحزب الشيوعي» للبلاد والاقتصاد.
قد يقال إن اشتراكيين كُثر سبقوا الصين إلى هذه «البدعة»، فجربوا أن يقيموا اقتصادا رأسماليا في ظل سلطة اشتراكية؛ وهذا صحيح من غير شك، والمثال على ذلك الاتحاد السوفياتي نفسه في مرحلتين من تاريخه الحديث. كان لينين نفسه أول من جرب ذلك في برنامجه لـ«السياسة الاقتصادية الجديدة (N.E.P) »؛ التي أرادها سياسة قائمة على معادلة: اقتصاد رأسمالي/ سلطة شيوعية، بعد أن وقف بنفسه على حجم تأخّر روسيا – بعد حربها الأهلية – عن البلدان الرأسمالية على صعيد بنى الإنتاج. ثم جرب ميخائيل غورباتشوف أن يبعث الحياة في السياسة عينها ثانية لإنقاذ الاتحاد السوفياتي، لكن مشروع البيريسترويكا انتهى به إلى الإخفاق الذريع وإلى انهيار الاتحاد. مع ذلك، لسياسة الصين، اليوم، مورد قوة لم يكن في الاتحاد السوفياتي؛ لا في عهد لينين ولا في عهد غورباتشوف: الإجماع الحزبي والشعبي عليها. وهو ما يفسر لماذا استطاع «الحزب الشيوعي» أن يبني – ثم يدير – ثاني أضخم اقتصاد عالمي حتى الآن.
عبد الإله بلقزيز