إبراهيم الخطيب.. العملة النادرة بين المترجمين العرب
محمود الرحبي
لا يعرف القارئ العربي من أي لغةٍ تأتيه ترجمات المغربي إبراهيم الخطيب، فقد ترجم للأمريكي بول بولز من الإنكليزية، ولخورخي لويس بورخيس، وخوان غويتسولو، من الإسبانية، وترجم للشكلانيين الروس ورولان بارت من الفرنسية. ولكن هذا القارئ يعرف أمرا أساسيا، فالخطيب يقدّم كل ترجماته بلغة عربية قوية وعذبة في الآن ذاته، تدلّ على استمتاعٍ ومنادمةٍ طويلةٍ وعشق نادر للغة الضاد.
تطواني من مواليد 1945، يذكّرك حين تلتقيه، بأناقته ولطفه، بعلماء الأندلس، وبآخر من تبقى من مترجمي مدرسة طليطلة، أولئك الذين عكفوا على نقل التراث العربي إلى العالم. ولكنْ على الرغم من ذلك تظل ترجماته انتقائية ونادرة، من النوع الذي يمكنك أن تحتفظ بها مطولا وأنت تعيد قراءتها، ليس فقط للتمتع بالمادة المترجمة، بل للتمتع، أساسا، باللغة العربية، الصافية مثل ماء زلال أو شهد عسل جبلي نقي ومصفّى، يقتات من رحيق زهور المعجم الثري للعربية. كما يمكنه أن يتمثل لك كأحد الرواة المجهولين لألف ليلة وليلة. أتذكّر أنه حدّثني، في آخر لقاء لي به، قبل جائحة كورونا، عن تفاصيل دقيقة من حياة بورخيس، من قبيل غرامه بالسينما، وكان يصطحب معه مترجما للصور، في حين هو يصغي للحوارات. وأن أصدقاء بورخيس صاروا يحرصون على أن يرتدوا ربطات عنق باللون الأصفر احتراما له، لأنه لا يرى من الألوان إلا هذا الأصفر!
أن تعرف أن مترجما ظلّ يقرأ لكاتب طيلة عقد قبل أن يدخل، متردّدا ومتوجّسا، غمار ترجمته سيُعطيك انطباعا أوليا عن أيّ «عملةٍ» من المترجمين هو إبراهيم الخطيب. أمام هذا، ستحجم عن التساؤل ما الذي جعل الخطيب يخصّ ترجمته لقصص للأمريكي بول بولز بثلاث مقدمات؟ والحديث هنا عن مختارات قصصية تمتح مادتها من الفضاء المغربي، صدرت عن دار توبقال في الدار البيضاء، بعنوان «البستان»، أورد فيها الخطيب مقدّمة أولى في بداية الكتاب وثانية وثالثة في نهايته؛ وهي مقدّمات أشبهُ بأبحاث مكثفة، أحدها، مثلا، استعراض لثلاثة كتب صدرت بالإنكليزية عن هذا الكاتب الأمريكي الذي اختار وزوجه، جين، مدينة طنجة ليعيشا فيها قرابة الستين عاما.
داوم إبراهيم الخطيب، إذن، على قراءة بورخيس عشر سنوات، قبل أن يغامر ويترجمه لقراء العربية للمرّة الأولى، من خلال مختارات «المرايا والمتاهات». وكان لترجمته صدى عربي واسع، بل كانت البوابةَ الأولى التي عرّفت قراء الضاد بكنوز أعمى بوينس آيريس. ثم في العام 1992 ترجم له «الدنو من المعتصم» الذي سنرى فيه مدى تأثر الكاتب الأرجنتيني بالتراث العربي وشغفه به، إذا علمنا عن التحول الكبير الذي أحدثه كتاب ألف ليلة وليلة في مسيرته الإبداعية… وقد صدر أحدث عملين لإبراهيم الخطيب عن منشورات مجلة الدوحة، أحدهما «يوميات طنجة» لبول بولز، والثاني «مع بورخيس» لألبرتو مانغويل.
استحضارا لما سبق، سيكون تحصيلَ حاصل أنّ الخطيب لا يترجم ميكانيكيا، وإنما بلمسةٍ إبداعيةٍ، وبعشق وإحساس تنمّ عن ذائقة أدبية فريدة. لذلك تخرج ترجماته أشبه بتُحفٍ فنيةٍ، يمكن الاحتفاظ بها مفتوحةً لإعادة قراءتها في كل مرة من دون ملل أو تبرّم.
بدأ أولى تجاربه في الترجمة في أوائل السبعينيات، حين ترجم للسّورياليين الفرنسيين ولفيدريكو لوركا. ثم، منذ أواسط السبعينيات، بدأ يهتمّ بترجمة مؤلفات النقد الأدبي، فترجم للشكلانيين الروس مقالاتٍ كان ينشرها في مجلة أقلام، ثم في مجلة الثقافة الجديدة، قبل صدور كتاب «نظرية المنهج الشكلي» (1982) في بيروت، وبعده «النقد والحقيقة» لرولان بارت. في خضمّ ذلك، ظل يشتغل على قصص بورخيس، مع نشر بعض ترجماته لها في صحف ومجلات، قبل أن تصدُر ترجمته «المرايا والمتاهات». وفي الثمانينيات، شرع في ترجمة قصص بول بولز، إلى جانب نشر مقالات عنه في صحيفتي العلم والاتحاد الاشتراكي (المغرب) ومجلتي اليوم السابع، الأسبوعية التي كانت تصدر في باريس، والكرمل الفصلية. وبعد الثمانينيات، صار غويتيسولو الذي يعرفه شخصيا، كما يعرف بول بولز، في قلب اهتماماته. وكان من ثمار ذلك ترجمته ثلاثا من رواياته، «الأربعينية» و«حصار الحضارات» و«أسابيع الحديقة»، إضافة إلى مختارات من مقالاته «علامات هوية». وخلال فترة الحجْر الصحي، أعدّ كتابا يضمّ مقالات أدبية لغويتيسولو يعتزم إصدارها، وضع لها عنوان «أوراق من شجرة الكتابة».