أين المفر؟
في الوقت الذي تستمر فيه يوميا أوديسة البحار في جرف أرواح العشرات من المهاجرين الفارين من ويلات البؤس والحروب، في هذا الوقت بالذات، قررت مجموعة من الدول الأوربية تسييج حدودها، فيما أقدم البعض الآخر على طرد المهاجرين واللاجئين، أو فرض ضرائب مع تجريدهم من مدخراتهم وأغراضهم. وقد أعطت الدنمارك التي يحتذى بها في مجال إدماج الأجانب ومجال الديمقراطية والتسامح، «أعطت المثل» باتخاذ إجراء، صوت عليه البرلمان بأغلبية ساحقة يقضي بحجز جزء من «ممتلكات» اللاجئين الوافدين على البلد. واعتبر إينغر ستوبرغ، وزير الإدماج الدنماركي، بأن «من الطبيعي أن لا تصرف الدولة على أولئك الذين يتوفرون على إمكانيات والذين عليهم تحمل النفقات المترتبة عن استقبالهم».
ويذكر أن سويسرا، ومنذ عدة أعوام، تعمل بسياسة تغريم الوافدين الجدد على أراضيها من اللاجئين، أو المهاجرين، أو تجريدهم من مدخراتهم. على غرار الدنمارك، سارعت دول أوربية أخرى إلى اتخاذ قرارات مماثلة، بل وأكثر راديكالية، فقد صادرت بعض المقاطعات الألمانية ممتلكات اللاجئين بغاية «تغطية حاجياتهم في مجال التغذية والسكن»، وقد أعطيت الأوامر للشرطة للقيام بهذه الإجراءات. وأشارت صحيفة «بيلد» الألمانية إلى أن الشرطة تقوم بتفتيش طالبي اللجوء السياسي حال وصولهم ومصادرة ما يمتلكونه من النقود والأغراض الشخصية، وبالأخص الحلي والمجوهرات العائلية التي تتجاوز قيمتها 750 أورو. دفعت هذه الوضعية بوزيرة الإدماج الألمانية، أيدان أوزوكوز، (وهي من أصول تركية) إلى القول إن «اللاجئين، وعلى الرغم من الأفكار المسبقة، ليسوا أفضل حالا من أولئك الذين يستفيدون من مساعدات الدولة».
أما الدول الأوربية التي اتخذت إجراءات راديكالية، بل استئصالية فتأتي على رأسها كل من تشيكيا والنمسا. تعتبر تشيكيا، من بين البلدان التي يعبرها اللاجئون والمهاجرون في اتجاه الغرب، البلد الوحيد الذي يطبق سياسة الحبس والاعتقال المنهجي لمدة تتراوح بين 40 و90 يوما في حق اللاجئين، و«في ظروف لا إنسانية» على حد قول زيد رعد الحسين، المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة. وتشمل هذه الاعتقالات أطفالا أيضا يصل عددهم اليوم إلى مائة طفل. علاوة على حجز هواتفهم النقالة وأغراضهم الشخصية، تفرض الشرطة التشيكية على المهاجرين يوميا غرامة تقدر بعشرة أوروات. وتلجأ السلطات التشيكية إلى هذه الأساليب المهينة لنسف طموح المهاجرين إلى عبور أراضيها. أما النمسا فقد شيدت حائطا من الأسلاك بعلو 4 أمتار يمتد على مسافة 3,7 كيلومترات بين حدودها وسلوفينيا، وقد انتهى الجيش النمساوي من أشغال بناء هذا الحائط، أمس. إضافة إلى هذا الإجراء صوتت الحكومة النمساوية في 26 يناير الماضي على مشروع قانون يقضي بتقليص مدة اللجوء السياسي إلى ثلاث سنوات. أما السويد فتتأهب لطرد 80 ألف مهاجر، وقد فتحت باب الترشيح في وجه اللاجئين الراغبين في العمل كسائقين للشاحنات، التي سترحل إخوانهم من اللاجئين.
الواضح أننا نعيش اليوم الأطوار الأخيرة للحكاية الناعمة، التي عاينا فيها على المباشر آيات الحفاوة والترحاب لمعذبي الأرض الجدد، لما وصلوا في الأيام الأولى إلى محطات القطار بأكثر من عاصمة أوربية. كما نعيش الساعات الأخيرة لاتفاقية شينغن. فإلى الآن فرضت 12 دولة أوربية مراقبة على حرية التنقل عند حدودها المشتركة. من بين هذه الدول فرنسا، ألمانيا، هنغاريا، بولونيا، سلوفينيا، هولندا، الدنمارك، السويد، الخ… غير أن إلغاء اتفاقية شينغن، أو إعادة النظر في مقتضياتها القانونية قد يؤثر سلبا، اقتصاديا وسياسيا، على عمق فكرة أوربا بما هي مجال للتبادل الحر والتكامل. كما أن إغلاق أو فرض المراقبة على الحدود غير قادرة على وضع حد للإرهاب، أو لأوديسة الترحال، برا وبحرا، والتي برهنت بالملموس على أن قيم الحفاوة والضيافة والاستقبال بأوربا إن هي إلا أساطير.