شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

أولياء فاس.. انطباعات عن الدور العلاجي للزوايا والأضرحة

الكتاب «لو تكلمت حيطان فاس-4-

                

كانت الزوايا والطرق الصوفية بالمغرب عبارة عن جمعيات عمومية لا تهدف إلى تحقيق الربح، وإنما تسعى إلى القيام بعدة أعمال ومبادرات لفائدة أعضائها بفضل استغلالها وإنفاقها لريع الهبات والهدايا التي كان يتبرع بها المحسنون وفاعلو الخير.

خالد فتحي

زوايا السكينة والطمأنينة

كانت الثقة الوفيرة التي يحظى بها شيوخ الطريقة من طرف المريدين مستحقة في نظرهم، لأنهم كانوا يبرهنون لهم عن خصال معنوية وسمات إنسانية عالية. كما كانت الفوائد التي تعود على المنتسبين لهذه الفرق والزوايا من جهة أخرى تشكل حافزا أساسيا يدفع بآخرين إلى الانضمام لها عن قناعة وبينة، ومما كان يضمن توسيع دائرة الأتباع.

كان التماهي مع الجماعة الصوفية يمنح المريد السكينة والطمأنينة، ويزوده بشعور دافق بالانتماء، وذلك بالقدر الذي كان يبادر هو فيه بتمثل مبادئها ويسعى إلى التفاني في خدمة أهدافها.

كانت هذه الزوايا مستعدة باستمرار لنجدة المنتسب لها كلما صادف بعض المشاكل، أو واجه نزاعات مع الغير، أو داهمه مرض من الأمراض المستعصية، مما كان يزوده في قرارة نفسه بِشِبْهِ يقين بأنه غير أعزل في مقارعة الحياة، وأن هناك من سينصت له، ومن سيساعده معنويا وماديا، إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك، إلى حين تجاوز تلك العقبات.

في الوقت الحالي، أجدني مكرهة أن أفسر، أنه وبدعوى العقلانية، أصبحنا ننتقص من قيمة كل ما هو جميل لدينا، ونتخلى عن عدد من الإيجابيات التي تزخر بها ثقافتنا. فالإفراط في المنطق العلمي، وفيما يصطلح عليه بعملية الترشيد، حرم الفرد من مقوماته الوجودية ومن إنسانيته وكرامته، لدرجة أتساءل معها إن كان من اللازم فعلا أن نشكك في حضارتنا، وأن نقوض قيمنا لأجل الانخراط الكامل في الحداثة.

وصف كارل جوستاف يونغ هذه الحالة بالعصاب المعاصر، إذ كان حينها قد تساءل: «ما الذي يتعين فعله باللاعقلاني فينا حين تتحطم أوهامنا، بماذا سنعوضه كي نمنح أنفسنا فرصة الاستمرار في الحياة؟»، «فأن تعتنق طقسا من الطقوس، يخلق لديك شعورا رائعا… نوعا من الثمالة والاستحالة الجماعية»، بل لقد ذهب ك.ج. يونغ إلى أبعد من ذلك باستعماله لتعبير «المشاركة الروحانية»: «إذا ما تمكن الفرد من التماهي مع الفكرة الوهمية بأن الجماعة التي هو بصدد الذوبان فيها رائعة، فإنه سيتحول إلى بطل. إذ يتعدى هذا الشخص الشعور المختزل بكونه مجرد فرد ما».

لاحظ ك.ج. يونغ أن نجاحات العلم غير قابلة للإنكار، لكنها لم تقدم رغم ذلك للبشر لا سلاما داخليا، ولا خلاصا نهائيا. هكذا يتوقف مليا عند الإنسان العصري، فيقول عنه: «إنه إنسان واثق جدا من نفسه وقوي جدا. لكن بما أنه يعتبر أن هذا النجاح قد صار مكسبا لا غبار عليه وغير قابل للتراجع، فإنه صار عرضة للتشتت بالتصدي لكل أنواع الانشغالات والتركيز بعدد كبير من الأشياء. إن مثل هذه الشخصية ستنتهي إلى نسيان أصلها، وتقاليدها، وحتى ذكرياتها الخاصة إلى درجة أنه سيتهيأ لها أنها صارت شيئا آخر، وهو ما سيزج بها في صراع مميت ضد ذاتها. إن العقلانية التي يعوزها التقليد، ولا أساس غريزي لها، المقطوعة الأوصال مع العقل الباطن، ستصبح بكل سهولة فريسة للاقتراحات من كل صوب وحدب، مما سيعرضها لعدوى نفسية، ولدهان جماعي أو جماهيري».

 

علاقة روحية مع الأضرحة

في طفولتي، اكتشفت العديد من الأضرحة التي كان يرتادها ويبجلها أغلب السكان. بل وسأنسج علاقة روحية خاصة معها بعد أن مررت فيها بتجارب شخصية من جهة، واستفدت من جهة ثانية من تجارب أخرى حكاها لي أصحابها.

سأكتشف بمفردي، وبوسائلي الذاتية، خلال سنوات الستينيات الولي الصالح سيدي علي بوغالب، كان هذا الضريح يقع بقرب مقر عمل والدي، بباب الفتوح. لذلك كنت أغتنم تواجدي بتلك المنطقة معه لكي أستكشف ذلك المبنى الغامض بالنسبة لي.

في ذاك الوقت، كان ذاك الحي الهامشي غير مأهول تماما بالسكان. كنت طلبت حينها من أبي أن يسمح لي بالذهاب لأجل شراء بعض البسكويتات من معمل صغير وقريب. لكن فضولي كان يجرني لأبعد من ذلك… أن أتجاوز الورش بكثير إلى أن وجدتني وجها لوجه مع بوابة الضريح ونافورته الكبيرة. كانت خطتي سهلة جدا: أن أتبع خطى الجمع الصغير الذي يصعد الأدراج وأسير حيث يسيرون. لكم اندهشت حينها، وأنا أسمع الكثير من الضجيج بمجرد أن ولجت الرواق. أتذكر أنني ترددت لوهلة، وأني تساءلت، هل علي أن أشق طريقي وأتابع المسير؟، أم علي أن أعود أدراجي من حيث أتيت؟، لكن موجة بشرية هادرة حسمت الموقف، ودفعتني نحو الأمام دون أن تترك لي خيارا آخر سوى التقدم والصعود إلى الضريح. استوعبت بذكائي الفطري، وأنا لازلت قيد مكاني، أنه يتعين علي أن أتسلل وأتلوى كالثعبان لكي أجد لنفسي طريقا. جربت أن التصق بالنساء، لكنني ما لبثت أن غرقت بينهن. ففجأة، صارت الصغيرة التي كنتها مثل قشة تتقاذفها الرياح أو المناكب بأصح التعبير، كانت تتعثر لكن لا تسقط، تختنق لكن لا تموت، تتلقى الضربات لكنها لا تعرف مصدرها على وجه التحديد، فلا تبكي ولا تشتكي، والأفدح من كل هذا أنه كان عليها أن تستنشق بالرغم منها مختلف الروائح التي تفوح إليها من داخل هذا الجمع الذي ترتطم أمواجه، بعضها كان روائح طبخ، وبعضها الآخر كان روائح إسطبلات. فالكثيرات كن يقدمن لزيارة الولي دونما استعداد مسبق، بل فقط كمنتهزات لفسحة زمن مالئات لوقت فراغ أتيح لهن. تحول الأمر فيما أعقل إلى ما يشبه الكابوس أو قد كان هو الكابوس عينه. كانت كل الأجواء والمشاهد التي رأيتها أو عشتها فظيعة جدا. كان كل شيء في هذا الضريح يختلف اختلافا تاما عن سكينة ودعة الأضرحة بالمدينة القديمة.

كان موقع ضريح سيدي علي بوغالب مميزا وجميلا. كان محاطا بتلال خضراء حيث تنعقد عروض الحلقة التي هي عبارة عن مشاهد ومحكيات شعبية تجري في طقس احتفالي. كنت قد توهمت أن هذا الجو الرائع سيتواصل داخل الضريح. لكن العكس هو ما قد جرى لي تماما. لقد وجدت نفسي داخل جو غريب لا يتلاءم مع مبلغ مسيرتي الصغيرة وتجربتي الزهيدة في الحياة: كان علي أن أقابل وجها لوجه المرضى الكبار، بل لقد وجدت نفسي في أتون وضع شبيه بوضعهم!.

 

يوم لطائفة النساء

كان ذاك اليوم مخصصا لطائفة النساء، كانت غالبية الأمهات وأطفالهن المرضى قادمين حسب ظني من البوادي المحيطة بفاس لأن العائلات من سكان المدينة كانت تفضل أن تخفي مرضاها عن العيون. لم أكن أتخيل يوما أن أعاين تلك المشاهد الرهيبة الكئيبة.

ومما زاد الطين بلة، أن بعض النساء، ممن كان يظهر عليهن كأنهن فقدن الصواب تَأَثُّراً بمأساتهن، قد فاقمن بصرخاتهن إحساس الرعب بداخلي. بالنسبة لي كطفلة، ظننته يوم القيامة قد حل بمدينة فاس، وأني أشاهده آنذاك على المباشر… في الحقيقة، بقدر ما كنت في أعماقي جد فرحة وواثقة بنفسي بعد أن نجحت كالكبار من صعود الأدراج لوحدي، بقدر ما كنت جد مذهولة أن ألتقي بهذا العدد المثير من المرضى دفعة واحدة.

لاحظت أن بعض النساء ترتدين ملابس ملونة بعد أن نزعن رداءهن الأبيض «الحايك»، وأن نظرات منهكة ويائسة كانت تطل من عيونهن، بينما كانت الأخريات منهن يتجاذبن أطراف الحديث بأصوات جد مرتفعة.

في تلك الفترة، كانت نساء البادية يغطين أجسادهن بالحايك، (وهو عبارة عن لباس تقليدي مغربي من أصل أندلسي مصنوع من قماش أبيض اللون من الصوف أو القطن كانت تلتحف به نساء تلك الفترة من الرأس إلى الأقدام، وذلك قبل بروز الجلابة)، بينما كانت نساء المدينة تفضلن الجلباب أو الجلابة. لازلت أستحضر كيف انبرت واقفة وبشكل مفاجئ إحدى الشابات ممن كن ضمن جمع النساء، وانفجرت باكية بينما يداها مرفوعتان نحو السماء، وكيف هبت بعض النساء لمساعدتها. لم يكن يبدو عليهن أنهن يرين منظرا غير مألوف لهن، بينما كنت أنا مشدوهة كالمشدوهة أو مصدومة أو كالمصدومة، فاغرة فمي من هول ما رأيت. ظللت مسمرة مجمدة في مكاني لا أدري ما يتعين علي أن أفعله. لم تؤاتيني آنذاك القدرة لا على مساعدتهن ولا على الكلام إليهن. انتظرت برهة إلى أن انفرج الوضع وخف الكرب، لأحاول أن أتحدث مع واحدة منهن، لعلي أفهم ما الذي يجري في هذا الضريح غريب الأطوار. لكن هيهات هيهات، لم يكن لأي واحدة منهن وقت تخصصه للاهتمام بي للإجابة عن أسئلتي.

انكفأت على نفسي، وتساءلت إن كنت أنا التي لا تعرف صوغ أسئلتها؟. حاولت أن أبحث عن صيغة أفضل، لكن لا حياة لمن تنادي، فلا واحدة قررت أن تغيثني أو تروي ظمأي بجواب شافي، وهو ما استفزني كثيرا. فجأة سيقع مالم أضرب له حسابا: ستبرز من بين الجموع سيدة بملامح سلطوية، وستتقدم نحوي بثبات، وتطلب مني بإشارة واحدة من يدها أن أغادر فورا المكان مومئة بأصبعها لطريق الخروج. اضطربت قليلا، لكنني استجمعت شجاعتي، وتجرأت على أن أقول لها: «من فضلك. ما الذي يقع هنا؟».

أجابتني: «ليس مكانك هنا. عودي مرة أخرى».

للحظات ما، ظننت أنني داخل مستشفى، لكني انتبهت أنه لا وجود للبذل البيضاء، وأنه لا أثر أيضا لطوابير المرضى، ثم انتبهت مرة ثانية أنه لو يكن هناك ولا النزر القليل من الأثاث. كانت كل العائلات تجلس أو تتمدد فوق الأرض. كان المحيا البئيس لكل الناس هناك ينم عن هشاشة قصوى لا يمكن وصفها. هكذا سيطرت علي قناعة تامة بأني غير مؤهلة أن أقيم أو أزن مأساتهم. لكني سأفهم بعد أن تخطيت ثمان سنوات من عمري أن المعاناة من بعض الأمراض الخطيرة والمزمنة تكون أحيانا أشد من الموت ذاته. سأفهم أخيرا أنه لم يكن هناك داع كي يهتموا بي أو يبادلوني العبارات المؤدبة الودودة التي كنت أنتظرها، فالوضع كان كئيبا جدا، ولا يتحمل، كأنه كان حصة من حصص عذاب الجحيم.

 

زيارة الولي الصالح.. سيد المكان

ختمت مغامرتي تلك بأن انتهيت إلى الخروج من الضريح، مطأطأة الرأس خفيضة الجناح، دون أن أتمكن من السجود بجانب الولي الصالح، سيد المكان. لكن إيماني سيبعث قويا من هول ما رأيته من معاناة البشر من أمثالي. فبكيت بكل الهدوء الممكن في خفية عن الأعين. لقد انفطر قلبي للمرة الأولى في حياتي. ولعل ندوب هذه الزيارة قد حفرت لها أخاديد عميقة ودائمة في نفسي التي التاعت من هول ما رأت. لقد عشت مواجهة قبل الأوان بين ضعفي وبراءتي الأولى والمواساة التي نستحقها كبشر من بعضنا البعض. لذلك سأعيش لمدة تأنيب ضمير فظيع لأنني كنت أصدرت أحكاما ظالمة ومسبقة على أتباع الضريح قبل أن أتبين حقيقة وضعهم السيئ الكارثي، وأستدرك بالتالي موقفي.

عندما سمعت الصياح والعويل والولولات عند مستهل الرواق المؤدي لقبر الولي سيدي علي بوغالب، قلت متسرعة في نفسي: «هؤلاء القادمون من خارج المدينة لا يتقيدون بآداب زيارة الأضرحة». كنت قد قست هذا الحكم على ما يجري داخل أضرحة المدينة العتيقة. الآن، ومع مرور الزمن، كم أجد أن موقفي كان مضحكا بل ومقرفا وبئيسا. صحيح أنني قد عدت لحال سبيلي، وأني نفذت بجلدي من المكان لأني لم أستطع تحمل ألمهم، لكن الوعي بمآسي الآخرين أحيى لدي حاسة التعاطف والتضامن اللذين انبجسا عندي منذ تلك التجربة بأقوى ما يكون الانبجاس. لأني اعتبرت أنه كان من واجبي على الأقل أن أفعل شيئا لمساعدتهم ولو ببضع كلمات رفيقة وبسيطة.

بفضل هذا الجمع، سأكتشف لاحقا أن للدعم النفسي نتائجه الباهرة لأنه يخلق روابط متينة وداعمة تخفف من عبء المآسي وتعين علي تحملها. لم أجرؤ بطبيعة الحال أن أحكي لأبي على الفور كل ما عشته. خفت أن ينهرني أو يحرمني من الخرجات المقبلة. لقد كانت باختصار تجربة تتعدى سني الصغير، لكنها لم تخل رغم كل شيء من عبر بليغة.

عندما هدأ روعي بعد ذلك بأسابيع، سأطرق الموضوع مع والدتي التي شرحت لي: «كل الأتباع المخلصين لهذا الولي الصالح يؤمنون ببركته ويعتبرونها قادرة على شفاء الأمراض الخطيرة». أجبتها: «أشعر أنني ارتحت الآن، ذلك ما أتمناه فعلا». لكن أمي ستعقب: «لحسن الحظ أن السكان حساسون، بحيث يقدمون مساعداتهم لعائلات المرضى من خلال الإنصات إليهم وتقديم الهبات لهم. شكرا لله أن لهذا الضريح رسالات أخرى أقل عنتا وعناء تحيل على الفرح لا على الشقاء والألم. إذ كان للمحتاجين أن يجلبوا أبناءهم خلال الموسم لأجل الاستفادة مجانا من الختان».

هكذا سترتسم الفرحة على وجهي بفضل تفسيرات أمي وأصيح بها: «من فضلك أمي، خذيني معك يوم الموسم. أريد أن أحضر احتفالاته»، لكن أمي ستجيبني، ومعالم الخيبة بادية على وجهها: «أني أرغب في ذلك من صميم قلبي، ولكن النساء لا يحضرن هذه التظاهرات الخارجية. ليس بإمكانهن الخروج إلى الشارع حتى لا يختلطن بالرجال. نحن محرومات مما تقدمه العديد من الأجواق والفرق الفلكلورية».

ما بقي مطبوعا في ذاكرتي، كان ذاك التناغم وذاك التضامن اللذان كانا يبين عنهما أولئك الأشخاص المتواجدون في ذلك المكان رغم أنهم كانوا جد منهكين بسبب مرض أقربائهم. حكت لي أمي أشياء إضافية يقوم بها هذا الولي الصالح. تطرقت بالخصوص لكرامة أخرى يقر له بها البعيد قبل القريب. عندما تكون امرأة على وشك الطلاق، تلجأ لهذا الضريح لتعتكف به. وغالبا ما تنال بركته بعد ملازمتها وتطهرها بداخله، فترى الحياة تسري من جديد في أوصال أسرتها التي كانت مهددة بالانهيار، كانت عودة المياه لمجاريها تجعل زغاريد النساء ترتفع إعلانا عن الحدث السعيد.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى