شوف تشوف

الرأي

أوضاع العالم خلال جائحة كورونا

محمد زين الدين
حضرت مقولة «العالم قرية صغيرة» من جديد بقوة إثر بروز فيروس كورونا، إلى حد أن هذا الفيروس المنطلق من ووهان الصينية استطاع التفشي في العالم بسرعة، مخلفا تداعيات صعبة على كافة الأصعدة، فبعدما كان العالم المعاصر يتأسس على توازنات مبنية على مرتكزات اقتصادية وتحالفات استراتيجية جد معقدة، أتى هذا الفيروس غير المرئي ليقوض كل هذه المرتكزات ويضرب بعرض الحائط تلك التحالفات، حيث فرض على العالم نظام التباعد الاجتماعي، مثلما فرض إغلاقا للحدود وتوقفا اضطراريا لعجلة الاقتصاد العالمي، فأرخت من الآن التداعيات الاقتصادية الصعبة بظلالها على أقوى الاقتصاديات العالمية بشكل يفوق تداعيات الكساد العظيم، الذي سبق أن عرفه العالم خلال ثلاثينات القرن الماضي أو أزمة 2008، فالعديد من دول العالم وجدت نفسها أمام عودة اضطرارية لممارسة دولة العناية من خلال اللجوء إلى سلسلة من الإجراءات ذات النفس الاجتماعي، تجلت بالأساس في:
ـ إعفاء المواطنين من أداء الضرائب المباشرة.
ـ دفع رواتب شهرية لكل الأشخاص المتضررين من فقدان الشغل.
ـ دفع منح مالية للفئات المستضعفة.
ـ منح المقاولات سلسلة من الإجراءات التحفيزية (إعفاءات من الضرائب، قروض بدون فوائد…)، بهدف ضمان عودتها إلى تحريك عجلة الاقتصاد.
الواقع أن أزمة كورونا كشفت بشكل مفضوح، أن رفع شعارات المبادئ والقيم الإنسانية لم تكن في واقع الأمر سوى شعارات جوفاء رفعتها الدول الكبرى، كما كشفت أن ما كان يسمى المصالح المشتركة كانت في واقع الأمر مصالح ظرفية؛ فبمجرد ما بدأت الأزمة حتى رفعت كل دولة شعار «دولتي أولا»، فكل دولة سعت إلى إنقاذ نفسها، حتى لو تعلق الأمر بضرب تحالفاتها الاستراتيجية، فبمجرد بروز تداعيات هذه الأزمة الصحية تنكر الحلفاء لبعضهم البعض، ليبرز الوجه الحقيقي لرأسمالية الكوارث من خلال الاستغلال البشع لهذه الأزمة، فالصين منشأ الفيروس باعت إلى العديد من الدول المتضررة جملة من صفقات الكمامات وأجهزة التنفس الاصطناعي بأضعاف ثمنها الحقيقي، بل أكثر من ذلك كشفت تداعيات هذه الجائحة عن بروز تعامل غير إنساني في العلاقات بين الدول، فالولايات المتحدة الأمريكية سرقت شحنة أقنعة للتنفس الاصطناعي كانت موجهة إلى ألمانيا، والفعل نفسه أقدمت عليه فرنسا مع دولة أوربية، بل أكثر من ذلك هددت الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام القوة من أجل الاستحواذ على الكمامات التي تحولت إلى مادة حيوية أكثر من النفط نفسه.
أزمة كورونا أماطت اللثام مرة أخرى عن ذلك العجز الممنهج لهيئة الأمم المتحدة، التي اكتفى أمينها العام بخرجات إعلامية يناشد من خلالها نهج منهج التآزر والتضامن بين الدول، كما كشفت الأزمة أن مفاصل هذه المنظمة الدولية مجمدة أكثر مما كان عليه الأمر قبل هذه الجائحة، فمنظمة الصحة العالمية وجدت نفسها تغرد خارج السرب، لعدم قدرتها على نهج منهج الاستباقية في إخطار دول العالم بخطورة هذه الجائحة، الأمر الذي عرضها لانتقادات لاذعة من قبل العديد من الدول على رأسها استراليا والولايات المتحدة الأمريكية، بل وصل الأمر بهذه الأخيرة إلى إيقاف الدعم المخصص لها بدعوى انحياز هذه المنظمة إلى الصين، لتدق الولايات المتحدة الأمريكية مسمارا آخر في نعش منظمة الصحة العالمية.
تداعيات كورونا عمقت من أزمة الاتحاد الأوربي، الذي بات اليوم على وشك انهيار مهول؛ حيث كشفت الأزمة عن رجاحة رأي دعاة قرار البريكست البريطاني بخروجها من جسم الرجل المريض، إذ بمجرد بداية الأزمة حتى تنكر الأعضاء للدول الأكثر تضررا كإايطاليا وإسبانيا وصربيا في مواجهتها لهذه الجائحة، الأمر الذي ينذر بخروج أعضاء آخرين من هذا الاتحاد.
في مقابل هذا العجز سيزكي تخاذل الاتحاد الأوربي مواقف الأحزاب اليمينية الداعية إلى إقبار الاتحاد، كما غابت عن مواجهة هذه الجائحة أي مبادرات فعلية لمجموعة السبع، مثلما غابت مجموعة العشرين لتكشف عن غياب تعاون دولي وافتقار واضح إلى الالتزام المشترك في حماية الإنسانية من هذا الوباء الفتاك.
لقد فرضت أزمة كورونا عودة دولة العناية L’Etat providence، لكن ليس بالمنظور نفسه الذي سبق أن عرفه العالم خلال منتصف سبعينات القرن العشرين، حيث عرفت هذه المرحلة تجاوز الدولة لحدود الدولة الحارسة وتدخلها في الاقتصاد، إلى جانب الحرص على تحقيق ضمان أكثر للخدمات الاجتماعية، بل إن أزمة كورونا فرضت على الدولة الوطنية ضرورة الاعتماد على نفسها، وتغطية الخدمات الاجتماعية الأساسية من صحة وتعليم ودعم للفئات المستضعفة.
وقد ساعد عنصر التباعد الاجتماعي على تحقيق مزيد من الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي التي أبدعت في حجز مواطني العالم بصيغ متعددة، كما مكنت التطبيقات الرقمية من التحكم في مراقبة المواطنين، بدءا من ضبط تحركاتهم، مرورا بالمعرفة الدقيقة لنوعية مشترياتهم، وصولا إلى معرفة وضعيتهم الصحية، وبقدر ما سهلت هذه التقنيات الجديدة من وصول الإنسان إلى المعرفة العملية، بقدر ما طرحت إشكالية انتهاك خصوصية المواطنين، بفعل قدرة هذه التطبيقات على إحصاء أنفاسهم داخل حجرهم الصحي.
إن الأسئلة المركزية هنا:
ما هي النتائج الأولية المترتبة عن تداعيات أزمة كورونا؟ هل سيستمر وضع «الدولة المتفرجة» التي روج لها أنصار العولمة؟ أم سنشهد عودة قوية للدولة الراعية، لكن بمنظور جديد ومتجدد يراعي إكراهات العولمة ومخاطر عالمنا المعاصر؟
سينتج عن وضع عالم ما بعد كورونا منظوران أساسيان لوظائف الدولة تجاه مجتمعها:
-أولهما العودة إلى اعتماد إنتاج السيطرة الاجتماعية بالمنظور الذي دعت إليه الماركسية التجديدية، والتي نوهت بالدور المركزي لأجهزة الدولة الوطنية من أجهزة أمنية وأجهزة إيديولوجية، فقد تتبعنا كيف تمكنت الصين من احتواء هذا الفيروس بفعل التدخل القوي لأعضاء الحزب الشيوعي.
– ثانيهما اعتماد منظور التوفيق والتحكيم بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين، مع ضرورة التدخل كلما تطلب الأمر ذلك، لأن دعاة رأسمالية الكوارث لن يتنازلوا بسهولة عن موقع الدولة المتفرجة.
– فلمن ستكون الغلبة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى