بشير البكر
يرى مفوض السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن «أوروبا حديقة وبقية العالم أدغال وغابات»، وذهب إلى أبعد في حديثه أمام الأكاديمية الملكية ببلجيكا منذ أسبوعين، عندما قال: «يمكن أن تغزو الغابات الحديقة». ومر هذا الخطاب العنصري المباشر، من دون أن يثير ردود فعل ترقى إلى خطورة معناه وخلفياته الثقافية. ويبدو أن مرد عدم الاكتراث، هو أن السياسي الإسباني الذي يتولى ثالث أهم موقع في الاتحاد، بعد رئاستي الاتحاد والمفوضية، ليس الأول الذي يتفوه بهذا الكلام المشين، الذي يعد محرضا على الكراهية بين أوروبا والشعوب الأخرى، سيما تلك التي سبق لها أن ارتبطت بعلاقات تاريخية خاصة معها وتقارب جغرافي، وعرفت أشكالا مختلفة من الاستعمار الأوروبي.
وأكثر ما يلفت الانتباه هنا أن بوريل ليس من تيار المحافظين الجدد، الذين ينادون بأطروحات صراع الحضارات، بل هو من مدرسة سياسية أخرى مختلفة كليا، وسيرته السياسية محطات داخل اليسار الإسباني، بدأها وزيرا للعمل في ثالث حكومة لرئيس الوزراء الاشتراكي، فيليبي غونزاليس، عام 1991. أما على المستوى العائلي، فهو ابن خباز، ذاقت أسرته مرارة الهجرة بسبب الظروف الاقتصادية، فقد سبق أن هاجر جده من إقليم كتالونيا إلى الأرجنتين، بحثا عن لقمة الخبز. ومن الواضح هنا أن المسألة لا تتعلق بالمدارس السياسية، بقدر ما تعبر عن ثقافة استعلاء متجذرة في بعض الأوساط الغربية، ولم تتجاوزها التطورات بعد، رغم التقدم الذي حصل بعد الحرب العالمية الثانية على مستوى التخلص من التمييز، وعقدة التفوق على الشعوب الأخرى.
تشكل هجمات 11 شتنبر (2001) بالولايات المتحدة محطة أساسية، على طريق إيقاظ (وتصعيد) العصبيات المرضية التي ترسخت خلال فترات الاستعمار، وهي خليط من تمييز وتعصب وعنصرية وانغلاق واعتناق لفكرة المركز والهوامش. وصدق بوريل حين قال إن استعارة عبارتي «الحديقة» و«الغابة» ليست من اختراعه، بل إن هذا المفهوم حاضر في النقاشات الأكاديمية والسياسية منذ عقود، وهنا تكمن مشكلة بعض الساسة الأوروبيين الذين لم يعتنقوا مفاهيم التقارب والمساواة بين الشعوب، ولا يزالون يدورون في الحلقة المفرغة القديمة، رافضين أن يدركوا أن العالم تجاوز أوروبا، وبالتالي، ليست هي من تحدد المرجعيات، وتحرك العالم الحديث ثقافيا واقتصاديا، ولم تعد لها السيادة والريادة على بقية أرجاء المسكونة، بل شاخت، وفقدت مكانة الحديقة التي تمارس الاستعلاء الثقافي.
لم يأت انفجار اليمين العنصري المتطرف بأوروبا من فراغ، بل ولد وترعرع داخل مؤسسات التفكير السياسي الغربي، الذي عجز عن ابتكار وسائل وأساليب لقيادة أوروبا المسؤولة عن ولادة الإيديولوجيتين، النازية والفاشية، والتي لم تقبل طواعية مسألة الاستقلال ومنح الشعوب حق تقرير مصيرها إلا بالقوة، بعدما نهبت هذه البلدان، وراكمت ثروات طائلة ساهمت بحدوث الثورة التي نقلت أوروبا إلى عصر جديد، ومثال ذلك الحكومة الإيطالية الجديدة التي تعتبر مرجعها الفكري الحركة الاجتماعية التي أسسها موسوليني، بل المسألة أعقد من ذلك، ويعبر عن أحد مظاهرها الرفض الذي يصدر عن حكومات، مثل فرنسا لمراجعة تاريخ الاستعمار، والاعتراف بأن هذه الحديقة صدّرت ذات يوم الجرائم ضد شعوب البلدان الأخرى.