أوربا تتمرد على السياسة الأمريكية في سوريا.. أين العرب من كل هذا؟
بعد انهيار منظمة “أصدقاء سورية” وكل إفرازاتها، بما في ذلك “الائتلاف الوطني”، الذي كان قبل عامين فقط يعتبر الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري، ويجلس رئيسه على مقعد سورية في قمة الدوحة العربية، بدأ “التحالف الستيني” الذي شكلته الولايات المتحدة قبل عام لمحاربة “الدولة الاسلامية” يتشقق هو الآخر، وقد لا يصمد طويلا بصورته الحالية، مثل كل المنظومات والتحالفات المماثلة التي سبقته.
ثلاثة مسؤولين في دول أوربية كبرى أعلنوا أمس، وفي توقيت لافت، التمرد على السياسات الأمريكية، سواء في كيفية التعاطي مع الرئيس السوري بشار الأسد، أو الانخراط في الحرب ضد “الدولة الاسلامية».
وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل غارسيا، طالب أثناء زيارته الحالية إلى طهران، بالتفاوض مع الرئيس السوري للتوصل إلى وقف إطلاق نار، يبدأ من حلب ويمتد إلى كل المناطق السورية الأخرى، مؤكدا أن السلام لا يتحقق إلا مع الأعداء.
نظيره النمساوي سباستيان كورتز ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما قال في تصريحات صحافية (الثلاثاء) إن على “الدول الغربية أن تشرك الرئيس السوري في الحرب ضد “الدولة الاسلامية”، وهي المطالب نفسها التي طرحها الرئيس الروسي بوتين قبل شهرين.
أما رئيس الوزراء الإيطالي ماثيو رينزي فبزّ الجميع، وذهب بعيدا عن كل نظرائه الأوربيين، عندما أعلن في برنامج تلفزيوني أذيع (الثلاثاء)، أن بلاده لن تشارك في الغارات الجوية في إطار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد مواقع “الدولة الاسلامية” في سورية أسوة بقراري فرنسا وبريطانيا في هذا المضمار، لأن بعض الأفعال والمبادرات قد تعطي نتائج عكسية، وتساءل “هل كانت عملية الإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي جيدة؟”، وأضاف “القذافي كان ديكتاتورا خطيرا للغاية لكن يجب توخي الحكمة والحذر قبل اتخاذ أي قرار مماثل”، ولعله يشير بوضوح إلى الوضع المأساوي الذي تعيشه ليبيا، وهو محق كليا في ذلك.
صدور هذه الأصوات في يوم واحد أمر لافت، ويشكل في نظرنا انقلابا ضد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وما تتخمض عنه من حروب، لأن هذه السياسة باتت ترتد عكسيا على أوربا وأمنها واستقرارها، سواء على شكل تدفق مئات الآلاف، وربما ملايين اللاجئين إليها، وبما يهدد هويتها المسيحية، مثلما تؤكد الأحزاب اليمينة المتطرفة، أو أعمال العنف والإرهاب الانتقامية التي يمكن أن تقدم عليها “الدولة الاسلامية” وأنصارها، والمتعاطفين معها، أو غيرها من التنظيمات، خاصة أن هناك مخاوف من اندساس بعض هؤلاء في أوساط المهاجرين.
خمس سنوات تقريبا والإدارة الأمريكية تحتكر ملف الأزمة السورية، وتستخدم المنطقة كحقل تجارب، ومع ذلك جاءت النتائج كارثية بالنسبة إلى أوربا خاصة، فالرئيس الأسد يزداد قوة بفضل الدعم الروسي الإيراني الصلب، و”الدولة الاسلامية” تزداد قوة، وتواصل تمددها في الجوارين العراقي والسوري، وتفتح فروعا أو ولايات في أكثر من دولة عربية وإسلامية، ويعلم الله وحده ما هي المدينة الجديدة التي ستضمها إلى إمبراطوريتها، فهل ستكون بيجي النفطية التي تسيطر على نصفها حاليا، أم كركوك، أم النجف، أم كربلاء، أم حتى بغداد نفسها؟
الأوربيون هم الذين يدفعون ثمن هذه السياسات الأمريكية المرتبكة والمتقلبة في آن، لأنهم الأقرب إلى المنطقة، التي يجمعهم بها حوض البحر الأبيض المتوسط، أما أمريكا فبعيدة جدا، أكثر من عشرة آلاف كيلومتر، ويشكل بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) عازلا طبيعيا، ودرعا واقيا.
إحصاءات أوربية جرى نشرها في الأيام القليلة الماضية تفيد بأن معظم اللاجئين الذين يركبون البحر باتجاه أوربا يأتون من المناطق التي تقع خارج سلطة النظام، وتؤكد أن عدد سكان دمشق تضاعف في السنوات الخمس الماضية بالقياس إلى ما قبلها، وكأن حال الذين ينشرون هذه الإحصاءات يريدون القول أن اللاجئين لا يأتون من مناطق النظام، وإنما المعارضة المسلحة، وبما يبرر التفاوض معه، أي النظام.
الحسم العسكري غير ممكن، والحل السياسي ما زال بعيدا، ودول الجوار (تركيا والأردن ولبنان) لم تعد قادرة على استيعاب المزيد من اللاجئين، والدول العربية المتورطة في الأزمة السورية، وصب المزيد من الزيت على نارها، طوال السنوات الخمس الماضية، من خلال دعمها للمعارضة المسلحة، لا تريد استقبال لاجئ سوري واحد، وتفرض شروطا تبدو في نظر بعض الدول الأوربية تعجيزية للوصول إلى الحل السياسي.
الولايات المتحدة تريد تغطية فشل سياساتها بافتعال أزمة جديدة مع روسيا، والإيعاز إلى حلفائها من الأوربيين الجدد مثل بلغاريا واليونان (على حد توصيف دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق) بعدم السماح للطائرات الروسية بالمرور عبر أجوائها خشية أن تحمل معدات عسكرية لسورية، وتنسى هذه الإدارة الأمريكية أن هناك طرقا برية وجوية وبحرية بديلة أولا، وأنها تجر المنطقة إلى حافة الحرب العالمية الثالثة ثانيا.
أين العرب من كل هذا؟
العرب مشغولون بإرسال قوات إلى اليمن لـ”تحرير” صنعاء، وعمران، وصعدة، والحديدة، وباقي المدن الأخرى، ينتقلون من حرب إلى أخرى دون حسم أي منهما، والضحايا عرب وليسوا إيرانيين، سواء كانوا مهاجمين أو مدافعين.
رحيل الرئيس السوري لم يعد وشيكا والقضاء على “الدولة الاسلامية” بات أكثر صعوبة، والثورة الأوربية على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ستزداد قوة واشتعالا فيما هو قادم من أيام.. وشكرا للاجئين السوريين، الأحياء منهم والأموات الذين قلبوا كل المعادلات، وفتحوا عيون بعض الأوربيين إلى الكوارث الزاحفة إليهم من جراء تحولهم إلى قطيع يديرهم البيت الأبيض عن بعد.