يحدد خط كارمان المنطقة الفاصلة بين المجال الجوي للأرض والفضاء الخارجي، فبعده تنتهي الحدود الجوية الإقليمية، وتصبح طبقة الهواء أقل كثافة، وتتوقف قوانين الفيزياء عن العمل بفعالية، ومن هناك يبدأ مجالٌ آخر تنشط فيه الأقمار الصناعية التي تتحرك في مجالٍ خالٍ من الجاذبية والهواء. تحدد القوانين الدولية ارتفاع خط كارمان بمائة كيلومتر. وبهذا يكون المنطاد الصيني الذي سمعنا عن رصده في الأيام الماضية في أجواء الولايات المتحدة قد طار بالفعل داخل المجال الجوي الأمريكي على ارتفاع 60 ألف قدم، أو بحدود 18 كيلومتراً، خمسة أيام، قاطعاً مسافة تزيد على 3500 كيلومتر، قبل أن تسقطه طائرة مقاتلة أمريكية قرب سواحل ولاية كارولينا الجنوبية. سار المنطاد خلال رحلته الطويلة في سماء أمريكا من دون أن تتجاوز سرعته 35 كيلومتراً في الساعة الواحدة، وهي سرعة بسيطة، إذا ما قورنت بالطائرات النفاثة أو الصواريخ العابرة للقارات. ولم يكن المنطاد مسلحاً ولا مأهولاً، ولكن سرعته كانت مناسبة لالتقاط صور واضحة، وقد يزيد من وضوحها قرب المسافة التي تلتقط منها، إذا ما قورنت بالمسافات التي تسبح فيها الأقمار الصناعية.
لا يعتبر اللجوء إلى مناطيد الهواء في الوقت الحالي خياراً مثالياً لاستخدامات التجسس، فقد هجرت الدول هذا الأسلوب منذ خمسينيات القرن الماضي، بعد التطور الهائل في اختراق الفضاء وفي عدسات الكاميرات الحساسة. ولم يعد المنطاد فعالاً في التجسس لكبر حجمه وسهولة اكتشافه وصعوبة التحكم في حركته التي تعتمد أساساً على اتجاه الرياح وشدتها. وما قد يثير الاستغراب في لجوء الصين إلى سلاح كهذا، ضمن لعبة السيطرة وعض الأصابع بينها وبين الولايات المتحدة، أنها تملك بالفعل تكنولوجيا متقدمة يمكنها أن تستغلها للحصول على معلومات أكثر، من دون أن يتضمن الأمر استفزازاً لأحد أو ضجة إعلامية كالتي حدثت. وقد قالت الولايات المتحدة، بوضوح، إن المنطاد تجسسي، وأرسلت طائرة مقاتلة لتُسقطه أمام عدسات كاميرا التلفزيون، وقد تُصدر مزيداً من الإيضاحات بشأن تفاصيل عمله، ومقدار المعلومات التي جمعها، وقد أبدت الولايات المتحدة أول رد فعلٍ سياسي بإلغاء زيارة مقررة سابقا لوزير خارجيتها، بلينكن، للصين.
قللت وزارة الدفاع الأمريكية من قيمة المعلومات التي يمكن أن يكون البالون قد جمعها، وقالت إن الصين لم تحصل على أكثر مما لديها، ما يعني أنه كان للمنطاد دور موازٍ لدوره التجسسي، وهو الاستفزاز، ورفع مستوى التوتر. وهي سياسة تعتمدها الصين كثيراً في تعاملاتها الخارجية مع الدول، فقد أرسلت، في شهر دجنبر الماضي، أكثر من 70 طائرة، تشمل مقاتلات ومسيرات إلى داخل المجال الجوي التايواني، وكانت قد أطلقت مئاتٍ من سفن الصيد، وبعضها ينتمي إلى مليشيات شبه عسكرية تابعة للبحرية الصينية، لتحتشد قرب الشواطئ الفيليبينية، ما وضعها في مواجهة مباشرة مع سفن الفيليبين التجارية المدنية.
في الوقت الذي تلجأ فيه الصين إلى الاستفزاز باستعراضٍ يتخذ شكلاً عسكرياً أحياناً، وتحرص على إبقاء التوتر مرتفعاً، إلا أنها تحرص أيضاً على عدم الوصول إلى مرحلة التصعيد الخطر. والولايات المتحدة التي تتشدد في المناطق ذات الأهمية الصينية لا تمانع، هي الأخرى، في إبقاء التوتر. وقد عبر الرئيس بايدن عن هذه السياسة بوضوح، في خطاب حالة الاتحاد، عندما قال بوجوب تحديث الجيش الأمريكي لمواجهة الصين، لكنه استدرك فوراً أنه يسعى بذلك إلى المنافسة، ولا يرغب بالصراع.
فاطمة ياسين