أمريكا تخسر عرشها
عبد الباري عطوان
أصبنا بحالة من الرعب، ولأسباب عديدة، من بينها شخصي، ونحن نشاهد شريط فيديو لأحد مستشفيات العاصمة الإسبانية مدريد وقد ازدحمت ممراته «بالجثث الحية» للعشرات من المصابين بوباء الكورونا، يفترشون الأرض، وبدون أي عناية طبية، أو القليل جدا منها، وبعضهم فارق الحياة وحيدا، وبطريقة مأساوية يعجز القلم عن وصفها.
أما الأسباب الشخصية، فتعود إلى أنني كنت في العاصمة الإسبانية، قبل 17 يوما، حيث دعاني البيت العربي في مدريد لإلقاء محاضرة عن أحوال العرب بعد الموجة الثانية من «الربيع العربي»، وعندما اقترحت على المنظمين تأجيل المحاضرة، أو حتى إلغاءها، بسب انتشار فيروس الكورونا، قالوا إن إسبانيا شبه خالية منه، وإن الحياة عادية والشوارع مزدحمة..
الرعب يأتي من أنه بعد يومين أو ثلاثة من مغادرتي جرى الإعلان عن ارتفاع رقم الإصابات من أقل من مائة إلى خانة الآلاف، بحيث وصل العدد الآن وبعد أسبوعين إلى 25 ألف إصابة.
إنه الإهمال، وسوء التقدير، وعدم أخذ الأمور بالجدية المطلوبة، وعدم استبعاد نظرية المؤامرة، فأوربا «القديمة»، حسب وصف وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفليد، أُخِذت على حين غرة، ابتداء من إيطاليا التي تجاوز عدد الوفيات فيها 5000 حالة ووصلت الإصابات إلى 52 ألف حالة، ومرورا بفرنسا (15 ألف إصابة و600 حالة وفاة)، وانتهاء ببريطانيا (5683 إصابة ووفاة 281)، التي يتزعمها رئيس وزراء تحركه المنطلقات العنصرية، ويوصف بأنه محدود الذكاء، ليس لأنه بث الرعب في بريطانيا والعالم، عندما بشر مواطنيه بأنهم سيفقدون أحباءهم، وأن حكومته تتبنى نظرية «حصانة القطيع» وتخطط لإصابة 60 بالمائة من الشباب لتكوين مناعة طبيعية، أما كبار السن والمتقاعدون فعليهم أن يواجهوا مصيرهم وحدهم، والنظام الصحي لا يستطيع أن يقدم لهم إلا القليل.
يقولون لنا صراحة، ودون أي مواربة، بأن بريطانيا على بعد أسبوعين أو ثلاثة من الوضع المأساوي الذي تعيشه إيطاليا، ونسأل، وما هي خططكم لمنع الوصول إلى هذه النهاية؟ يجيبون بأن عليكم التزام بيوتكم.
نظرية «مناعة القطيع» يجري تطبيقها، ولكن بالتدريج ودون إعلان رسمي، وأبلغني صديق مخضرم بأن المستشفيات لم تعد قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من المصابين، لأنها لا تملك الأعداد الكافية من الأسرّة، وأجهزة التنفس الصناعي اللازمة.
الولايات المتحدة زعيمة العالم الغربي «الحر» وشريكة الدول الأوربية في حلف الناتو، لم تقدم شحنة طبية واحدة لمساعدة هؤلاء الحلفاء، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك عندما عزلت نفسها كليا، وأغلقت أبوابها في وجه مواطنيها، وأوقفت كل رحلات الطيران من وإلى أوربا، وحاولت احتكار تجارب واعدة لشركة ألمانية توشك أن تنتج مصلا وعلاجا لهذا الوباء بعرض مليار دولار.
من المفارقة أن دولة واحدة وغير غربية، هي التي تتصدر المساعي لإنقاذ العالم من هذا الوباء، وتوظيف خبراتها لتطويقه في أسرع وقت ممكن، وهي الصين، فطائراتها المحملة بالمعدات والأدوية والمختصين، تطير إلى إيطاليا وإسبانيا وإيران والمغرب والجزائر وكل دولة تحتاج المساعدة، ووجه شي جين بينغ رئيسها، الأحد الماضي، رسائل عاجلة إلى قادة العالم يعلن فيها تعاطفه مع المصابين بهذا الوباء، واستعداد بلاده لبذل كل جهد ممكن لتقديم خبرات الوقاية من العدوى، وكيفية السيطرة على المرض.
رسائل الرئيس الصيني التضامنية وصلت إلى نظرائه في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وتؤكد ضرورة العمل المشترك في مواجهة هذا الفيروس الذي يهدد البشرية جمعاء، ولا يمكن مواجهته والسيطرة عليه إلا بالتضامن والتنسيق المشترك عالميا.
إنها مبادرة إنسانية، وتحرك مسؤول على المستوى الدولي، يعكسان خريطة جديدة للقوة التي ستتربع على عرش العالم في مرحلة ما بعد انتهاء هذه المحنة، خريطة لن يكون للولايات المتحدة مكان الصدارة فيها، لأنها فشلت في الاختبار، ولم تقم بواجبات الزعامة وشروطها.
ما زلنا نتمسك برأينا بأن المخابرات الأمريكية هي المتهم الأكبر بنشر هذا الفيروس، ابتداء من مدينة ووهان، قلعة الصناعة والاقتصاد الصيني، لتدميرها، ووصولا إلى أوربا القديمة التقليدية المتمثلة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، التي بدأت تتمرد على الهيمنة الأمريكية، وتخط لنفسها خطا دفاعيا استراتيجيا مستقلا عن أمريكا التي تريد تفكيك الاتحاد الأوربي وإضعافه بفرض العقوبات عليه، ودعم وتشجيع الانفصال البريطاني. إنها حرب على زعامة العالم بين الصين الصاعدة، وأمريكا المتراجعة، وفيروس الكورونا هو أحدث أدواتها.
نافذة:
الولايات المتحدة زعيمة العالم الغربي «الحر» وشريكة الدول الأوربية في حلف الناتو، لم تقدم شحنة طبية واحدة لمساعدة هؤلاء الحلفاء، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك عندما عزلت نفسها كليا، وأغلقت أبوابها في وجه مواطنيها، وأوقفت كل رحلات الطيران من وإلى أوربا