شوف تشوف

الرأي

أعواد الثقاب

جهاد بريكي

داخل كل منا مواد قابلة للاشتعال، للتدمير والتحطيم. بمقدرة كل شخص أن يتحول لغول مرعب، لديكتاتور بشع، لمجرم خطير، لأب متسلط. يكفي أن يتوفر عود الثقاب الجيد بيد متمكنة تستطيع إشعاله حتى يندلع الحريق الكبير.
يعتقد الإنسان أنه على دراية تامة بنفسه، وقد يعتقد الآخرون أنهم أيضا على معرفة كاملة بك فقط لأنك تعرفهم منذ سنوات أو لأنكم قضيتم عطلة نهاية الأسبوع في نفس الفندق واحتسيتم فنجان قهوة في البهو، في حين يكفي أن توضع في اختبار بسيط من اختبارات الحياة اليومية لتكتشف أنك شخص مختلف تماما عمن كنت تظنه أنت. كأن تعلق في زحام مرعب على طريق رئيسي بينما ينتظرك موعد مقابلة لوظيفة كنت تحلم بها لخمس سنوات متواصلة. ترى أي كائن سيخرج حينها لوجودك!؟
يكفي أن تجد نفسك أمام تهديد يعرض حياتك أو رزقك أو أمنك لخطر ما حتى يبعث من داخلك من لم تكن لتعتقد بوجوده أبدا. يقول إميلس يوران إن علينا تغيير أسمائنا بعد تجاوز بعض التجارب، لأننا لا نعود نفس الأشخاص السابقين.
أعيش مع المرضى وأهاليهم فترات مختلفة من رحلة التعافي، دخولهم للمصلحة مستعدين للعلاج، اقتراب موعد العملية، العملية، الأوضاع الحرجة التي تليها، وما بعدها من تحسن تدريجي ثم خروجهم لمنازلهم. وأخيرا عودتهم للفحص متفاخرين ومتحررين من إبرة الطبيب ونصائحه. أكاد أجزم أني في كل مرحلة من تلك المراحل أكتشف في المريض نفسه عدة أشخاص، يختلفون بحسب الظروف، بحسب الصعوبات والمشاكل والألم والوجع والشفاء.
ورغم كل ذلك يستطيع الإنسان، المتحول على الدوام، منح نفسه الأحقية لإطلاق الأحكام على الآخرين لمجرد أنهم يمارسون مصيرهم في التحول التدريجي بعد كل تجربة، تجارب لم يعرفها من نصب نفسه حكما دوليا ولم يخبر خباياها ولا تفاصيلها. يجلس في ركنه البارد يشاهد لقطات شاردة من فيلم طويل جدا حار في تحليله النقاد. ثم يشرع الأبله بتوبيخ زملائه على كوكب الأرض. وقد يوضع هو نفسه في الموقف ذاته ويمر من التجربة ذاتها ثم ينجز ما هو أغرب وأسوأ مما قام به زميله. إلا أن نعرة الجحود الآدمية ستسمح له بإيجاد ما لا يعد ولا يحصى من الأعذار والتبريرات لنفسه. وسيقتنع بأن التحول الذي لحق به ما هو إلا نهاية طبيعية لما عبره من جسور متهالكة وسدود تؤول للدمار بمجرد عبور قطة فوقها.
نحن في مأمن مادام عود الثقاب آمنا في علبته، لا تطاله يد متحمسة. غير أن اليد ستطاله مهما تمسكنا بالأمان الوهمي الذي نظنه حصنا يحمينا، لتشعل عود الثقاب بحركة واثقة ثم تندلع حرائق الغضب واليأس والألم والأمل والخوف والبكاء النائم بداخلنا. تكفي تجربة مريرة واحدة في الحياة لتستفيق فينا كل الطفولة وكل المراهقة وكل الشباب، لنكتشف من نحن وماذا فعلا نريد أو لن نكتشف، ففي نهاية المطاف نحن لا نريد نفس الشيء العمر كله. وقد نصبح نسخة عمن سخرنا بالأمس القريب منهم وعمن حاربناهم وأردنا بكل إصرار سقوطهم. ويمكن أن نحب من كرهنا ذكر اسمهم أمامنا وأن نصادق من تجنبنا النظر إلى وجوههم وأن نتنكر لمن قضينا سنوات نتغزل بعيونهم وأن نعادي من اعتدنا الدفاع عنهم. أن نرمي بعيدا مبادئ قدسناها، وأن نحمل بعناية أخرى رفضناها، أن نسخر من قضية حرضنا لأجلها سنوات طويلة وأن نتخلص من معتقدات توهمنا أنها مطلق الحق وتمام الحكمة.
سيشتعل عود الثقاب الذي تحرص على حمايته طال الزمن أو قصر، وستتحول، شئت أم أبيت، للأفضل أو الأسوأ لا يهم. ما يهم أن العاصفة ستدركك مهما ظننت أنك عداء سريع لا يقهر. وإلى حين الاشتعال المعلوم، كن لطيفا مع من لحقت بهم حرائق شتى وطالهم الهدم من كل جانب، فصاروا نسخا جديدة لا تشبه التي سبقتها. كن لطيفا واحتفظ بكل أحكامك لدورك القادم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى