أصبتُ بخيبة أمل لأن السفارة الأمريكية لم تتعامل بجدية مع تحذيري من الانقلاب
يونس جنوحي
بعد دقائق قليلة، تم اقتيادي إلى مكتب شاسع ومكيف، لألتقي بـ«هنري رايس». كان شابا في بداية الثلاثينيات من العمر، بشعر مجعد، يضع نظارات طبية سميكة.
لم أستغرق وقتا طويلا لكي أستنتج أنه لا يزال مبتدئا في ميدان التجسس، وأنه معجب جدا بنفسه. بالتأكيد كانت هذه هي مهمته الأولى خارج الولايات المتحدة. وكان يُريد أن يظهر أنه يقود كل شيء هنا.
كان مسترخيا فوق كرسيه الدوار يتأرجح يمينا ويسارا، بينما كنت أشرح له طبيعة مهامي السابقة. وبسبب سلوكه غير المحترم هذا، قررت أن أتحفظ ولم أخبره بكل المعلومات التي كانت لدي.
عندما أخبرته «آلين» عن «نبيل» الذي كان مصدر معلومة الترتيب لانقلاب ضد الملك الحسن الثاني رد عليها «رايس»:
«نحتاج إلى معلومات كثيرة عن عميلنا المستقبلي. لا يمكن أن نثق بأناس لا نعرف أي شيء عن ماضيهم السياسي ولا يمكننا التحقق منه».
وكان رد آلين: -لم أقل أبدا إن هذا «الصديق» مستعد لكي يعمل معنا عميلا أو مخبرا. بالتأكيد سوف يرفض هذا الأمر. إنه مسؤول مغربي كبير وصديق للملك الحسن الثاني. لا يمكن نهائيا أن يعمل لصالح حكومة أخرى
انتهى إذن اللقاء بين «آلين» ونبيل، مصدر معلوماتها الذي لم يكن يعلم أي شيء على الإطلاق عن عملها الحقيقي جاسوسة لـCIA الأمريكية.
كان مظهرها الأنيق، ومرتبتها الاجتماعية باعتبارها زوجة رئيس الوزراء الإسباني الأسبق، سليل الأسرة الأرستقراطية التي منحتها لقب «الكونتيسة»، بالإضافة إلى اهتمامها الكبير بأناقتها وفوزها بجوائز عالمية في مجال الأزياء والموضة، كلها عوامل ساعدتها في أن تُبعد عنها الشبهات.
التقت «آلين»، إذن، مع نبيل الذي أفصح لها قرب النافورة عن مخاوفه الكبيرة من صحة المعلومات التي كان يتوفر عليها، والمعززة بالوثائق التي تضم بعض الأسماء المقربة من الملك الحسن الثاني، والمحتمل أن يكونوا على اتصال سري مع المعارضين المغاربة في الخارج، ويقصد جناح الاختيار الثوري بزعامة الفقيه البصري، حيث كانت ليبيا تفتح لهم أبواب البلاد عندما كانوا منفيين خارج المغرب.
إذن لم تكن مخاوف «نبيل» مجرد هواجس. وهكذا غادرت «آلين» مكان الاحتفال في ساعة متأخرة من الليل. ونوت أن تتجه إلى السفارة الأمريكية في الرباط صباح اليوم الموالي.
ظهيرة في السفارة الأمريكية
«عندما اتصلتُ بالسفارة الأمريكية في اليوم الموالي، أخبروني أن السفير كان خارج مدينة الرباط. لكن السكرتيرة حجزت لي موعدا مع نائبه الذي استقبلني في فترة الظهيرة.
تحدثنا في مكتب الملحق، وأخبرته عن خدماتي السابقة لكل من وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب المخابرات OSS الذي كان نشيطا في إسبانيا خلال مرحلة الحرب العالمية الثانية. كما أخبرته أنني اشتغلت مع أسطورة التجسس «جوبيتر».
بعد ذلك أخبرته عن سبب زيارتي للسفارة، وأطلعته على نسخة من الوثيقتين السريتين.
ألح عليّ النائب لكي أطلعه على اسم الشخص الذي زودني بالوثائق، لكنني حاولت الاعتذار بلطف.
بمجرد ما إن سمع اسم «نبيل» حتى ظهرت عليه علامات الاهتمام الشديد وعرض عليّ أن أتحدث على الفور مع أحد ضباط CIA في مكتبه الموجود بالسفارة.
قال:
-رئيس المركز يوجد في الخارج الآن، لكن مساعدته سوف تهتم بهذه المعلومة.
ركب رقما على الهاتف وسمعته يطلب حضور شخص ما لكي يراني على الفور.
بعد دقائق قليلة، تم اقتيادي إلى مكتب شاسع ومكيف، لألتقي بـ«هنري رايس». كان شابا في بداية الثلاثينيات من العمر، بشعر مجعد، يضع نظارات طبية سميكة.
لم أستغرق وقتا طويلا لكي أستنتج أنه لا يزال مبتدئا في ميدان التجسس، وأنه معجب جدا بنفسه. بالتأكيد كانت هذه هي مهمته الأولى خارج الولايات المتحدة. وكان يُريد أن يظهر أنه يقود كل شيء هنا.
كان مسترخيا فوق كرسيه الدوار يتأرجح يمينا ويسارا، بينما كنت أشرح له طبيعة مهامي السابقة. وبسبب سلوكه غير المحترم هذا، قررت أن أتحفظ ولم أخبره بكل المعلومات التي كانت لدي.
رد عليّ «رايس» بأن المعلومات التي قلتها له من الصعب تصديقها، بحكم أنه يتوفر على عملاء كثيرين في المغرب ومن المستحيل أن يكون هناك تحضير لانقلاب على الملك دون أن تصل إليهم أصداؤه. وعندما طلبت منه أن يتصل بالسيد «جوبيتر» لكي يخبره بالموضوع ويطلب منه رأيه بحكم خبرته الكبيرة وحنكته، ثار في وجهي وأصبح عدوانيا بشكل ظاهر:
-إن إشارتك إلى «جوبيتر» القديم لا تثيرني. في رأيي يجب أن يُحال هو وأمثاله على التقاعد فورا.
وأضاف:
-.. ويجب أن تعذريني إذا أخبرتك أنكم جميعا في رأيي أصبحتم مُتجاوزين. نحن نتعامل مع الأمور الآن بشكل مختلف. نحن الآن نطلب أدلة دامغة قبل أن نكلف عميلا بتتبع قضية ما. أول ما يجب عمله هو استدعاء مصدرك لمعرفة ما إن كان فعلا موثوقا وجعله يملأ استمارة شخصية».
تعترف آلين بأن هذا الضابط الذي يعمل لصالح CIA في المغرب خلال سنة 1971 نجح في استفزازها وأثار لديها غضبا كبيرا. كيف تعاملت مع الوضع خصوصا وأنها تعترف بأنها أصيبت بخيبة أمل كبيرة ولم تتوقع أن يتم التعامل معها بتلك الطريقة.
العميلة الغاضبة
تقول «آلين» إن أول ما قامت به، ردا على استفزازات العميل «رايس»، الذي كانت قاسية عليه في مذكراتها ليس فقط لأنه كان ينتمي إلى الجيل الذي جاء بعدها في المخابرات، ولكن أيضا لأنه كان يحاول استفزازها منذ بداية اللقاء كما سوف تستنتج عندما كانت بصدد المغادرة. لقد كان كل شيء مقصودا.
تقول «آلين» إنها حاولت كتم ضحكتها على طريقة حديثه ومحاولته إضفاء الجدية والأهمية على كلامه. لكنها لم تتمالك نفسها لترد عليه:
«-ماذا تعني هذه «الاستمارة الشخصية» بحق السماء؟
-كل مصالح المخابرات الحديثة تستعمل هذه الاستمارة الآن. نحتاج إلى معلومات كثيرة عن عميلنا المستقبلي. لا يمكن أن نثق بأناس لا نعرف أي شيء عن ماضيهم السياسي ولا يمكننا التحقق منه.
أدرت رأسي في إشارة إلى عدم قدرتي على تصديق ما يقوله:
-لم أقل أبدا إن هذا «الصديق» مستعد لكي يعمل معنا عميلا أو مخبرا. بالتأكيد سوف يرفض هذا الأمر. إنه مسؤول مغربي كبير وصديق للملك الحسن الثاني. لا يمكن نهائيا أن يعمل لصالح حكومة أخرى. أما بخصوص استمارتك فلا أعرفها ولست مستعدة لكي أعرف عنها أي شيء. لقد بدأت العمل في هذا الميدان منذ أن أسست بلادنا جهاز المخابرات الخارجية ولم يطلب مني رئيسي أبدا أي شيء من هذا القبيل. ولو طلبه لم أكن لأعترض.
المصادر التي تمنحني المعلومة أثق بها كثيرا، وأعرفهم جيدا منذ سنوات طويلة بشكل شخصي. والمعلومة كانت تصدر منهم دون وعي منهم. لم أفكر أبدا في مساومتهم.
وختمت «آلين» محادثتها مع العميل «رايس» قائلة:
«أرى أننا لا نتفاهم مع بعضنا البعض».
هل أقفلت «آلين» الموضوع إذن؟ تعترف بأنها أحست بإهانة كبيرة عندما استهزأ ملتحق شاب بالجهاز بالرموز التي عملت معها في الـCIA، خصوصا وأنها اشتغلت في سنوات الحرب العالمية الثانية حيث كانت حياتها معرضة للخطر في أكثر من مناسبة. وقد ذكرت تفاصيل كل العمليات التي نفذتها لصالح المخابرات الأمريكية فوق التراب الإسباني خلال مد النازية في عز الحرب العالمية الثانية.
سباق ضد الوقت
كان مشكل «آلين» أنها جاءت برفقة زوجها وكان برنامجه حافلا جدا وقصيرا في الوقت نفسه، إذ كان يتعين عليها ركوب الطائرة إلى مدريد في اليوم نفسه الذي أنهت فيه لقاءها داخل السفارة، والذي لم يكن موفقا بالمرة. لم تكن تتوقع ألا يتم الاهتمام بالمعلومة التي حاولت تقديمها للسفير الأمريكي في الرباط.
وفهمت بشكل مباشر وصريح أن «رايس» لم يكن يريد التعامل معها في الموضوع، ولم يأخذ المعلومة على محمل الجد، وهو ما يعني أن السفارة لن تبلغ أبدا عن المعلومة التي وصلت إليها قبل انقلاب الصخيرات بثلاثة أشهر بالضبط من الانقلاب.
تقول «آلين» إنها حاولت في البداية ألا تظهر غضبها لزوجها، لكن بمجرد ما أقلعت الطائرة صوب مدريد، سألها رئيس الوزراء الإسباني الأسبق عن لقائها مع السفير.
وعندما أخبرته بالتعامل الجاف والمتعجرف الذي خصها به «رايس». أجاب زوجها لويس قائلا:
«هذا درس لي ولك. لم يكن يجدر بنا أبدا إخبار أحد بمخاوف صديقي نبيل».
لكن «آلين» كانت قد قررت ألا تتخلى نهائيا عن الموضوع، وأن تتابع تطورات الأوضاع عن قرب، في محاولة منها للتعامل بشكل مباشر مع إدارة الـCIA بدل حجر العثرة الذي اصطدمت به في الرباط.
اتخذت «آلين» قرارها في الطائرة، وهكذا عندما وصلت إلى مدريد، كان كل تفكيرها منصبا على العودة إلى الدار البيضاء.