كل ما يملأ قلبي المضطرب الآن حنين للماضي البعيد، للطفولة الأولى ولضفائري السوداء المتينة.
تستسلم أمي وسط عيني الدامعتين وصوتي المجروح وتوسلاتي البريئة فتقرر الاحتفاظ بي إلى جانبها بدل إرسالي للروضة. من النافذة يتناهى إلى سمعي صوت الأطفال يغنون خلف المعلمة فأبتسم بمكر وأتمسك بكتفي أمي داخل حضنها الذي نجحت في عدم مغادرته.
كل صباح هو جلسة نقاش كبرى وإقناع وترغيب وترهيب ينتهي برفضي القاطع للالتحاق بأشباهي الصغار وإصراري على البقاء في البيت المصحوب بحركات بهلوانية، كالتمرغ فوق السجادات والقفز المتواصل، لتعبير أكثر صدقا عن مدى تشبثي بالبيت. قضيت شهور السنة الأولى كلها على هذا الحال. فاستسلم من حولي وقرروا تركي ألهو وأمرح متشبثة بأطراف أمي أصحبها حيثما ذهبت وأختلق كل الأعذار لتسمح لي بالانزواء بين عنقها وصدرها كل مساء. تأخرت سنة عن زملائي في الالتحاق بالمدرسة، كانت سنة خلوتي بأمي، مريدة في زاويتها أطلب القرب والوصل.
أمي سمراء وأنا أميل لبياض باهت، أضع يدي الصغيرة بين يديها وأسألها، كيف لا نملك نفس اللون؟ فتخبرني أن جدة لأبيها كانت سمراء فورثت عنها هذا اللون بينما في الأصل كل أسلافها تميل بشرتهم للبياض أكثر. أسألها عن كل تلك الآثار التي تقف شاهدة على كل مراحل حياتها. طفلة تعشق البادية والجري وسط الحقول، ثم مراهقة تفقد أباها وسندها فشابة على عاتقها إخوة كثر. تخبرني عن إبريق القهوة الذي انسكب فوق يدها الصغيرة بينما كانت تنظف الأرضيات وتلمعها، عن “التحميرة” التي عالجوا بها الجرح فزادته فظاعة. عن الآثار القاسية كصخور بركانية في باطن كفها بسبب “الفراكة” التي قضت جل أوقاتها تفرك ثياب إخوتها عليها، عن الأصابع التي انتفخت بسبب أعمال المنزل ومواد التنظيف. أمي امرأة يضرب بها المثل في نظافتها وإتقانها للطبخ والنفخ، تفوقت في إنفاق الجهد والصحة ليقال “حادكة” قررت أن تحمي بناتها من هذا المصير، ثابرت بكل ما أوتيت حتى بلغت مرادها.
أستمع لكل حكاياتها كأنها وحي منزل، أتخيل شكلها طفلة تجري، ثم شابة تضع الحمرة خلسة على خدها. أسألها عن موسيقاها وأفلامها، عن كل نجومها الذين حفظت أسماءهم وكل مجلات “النواعم” التي ادخرت دريهماتها لتتبع أخبارها، وكل الأفلام العربية التي كانت تحفظ حواراتها.
أخرج من وكالة بنكية بعد أن وقعت أوراقا عديدة، القلم في يدي والعمر يضغط على قلبي. وجوه الموظفين باردة لا تبتسم، ووجهي أيضا. أشعر بالمدينة تلتف حولي وتخنقني. سؤال واحد يلتهمني حينها: متى كبرت وغادرت قلب أمي؟ أحمل الهاتف لأتصل بها، لا بد أنها استيقظت. صوت لطيف يأتيني من الطرف الآخر فتسلم علي وتسأل: لباس؟
أصمت ثانية فقط، لو صمتُ أكثر لشعرت بأن أمرا ألم بي ولجلست في ركنها يتآكلها القلق. بخير جدا، أجيب. ثم يسبقني صوتي دون أن أمنحه حق البوح. اشتقت للطفولة يا أمي في حي أولاد وجيه، اشتقت للعودة من مدرسة القاضي عياض والتهام طاجين الدجاج والبطاطس والزيتون الأخضر الذي تعدين، اشتقت لرائحة الخبز مع الظهيرة، لوجهك الممتلئ وليديك السمراوين. اشتقت لكريات العسل والحبة السوداء تحشرينها داخل فمي وتغلقينه لأبتلعها وسط نحيبي وسخطي. اشتقت للطفولة بين قلبك وصدرك يا أمي، لسذاجتي وأخطائي، ليدك تنزل على مؤخرتي فتلسعني، لمحاولاتي البائسة في مقاطعتك بعدها وفشلي السريع. اشتقت لجهالة الصغر، لعدم التفكير في أي شيء جاد. اشتقت لصباحات الروضة التي أقضيها تحت إبطك بينما الأطفال يرددون أغنية الفلاح الصغير. اشتقت لسؤالك المزعج الدائم: هل صليت العصر؟
توقفني ضحكاتها الهادئة وسكونها الرقيق، فأهدأ وأضحك. ثم ألين وأسكن كمن وطأت رجله جنته.