شوف تشوف

الرأي

أسرار الدماغ الإنساني

بقلم: خالص جلبي

في عام 1975م صدر كتاب لطبيب كندي هو (وايلدر بينفيلد Wilder Penfield) بعنوان «لغز العقلThe Mystery of mind»، أثار ضجة كبيرة وما زال في عالم الفكر. تمكن الدكتور (بينفيلد) من استخدام التقنيات المتطورة التي بدأها عالم فسيولوجيا الأعصاب (شارلز شرنغتون)، فقام بدمج ثلاثة علوم تطبيقية في دراسته الميدانية، هي مباحث الأعصاب (neurological researches) وفزيولوجيا (physiology) وجراحة الأعصاب (neurosurgery)، وقام بجمع البيانات والإحصائيات من تطبيقات مثيرة على أدمغة ما يربو عن ألف مريض، تم اكتشاف خرائط الدماغ عندهم في حالة الوعي الكامل، بواسطة تقنيات جديدة في دراسة المخ والأعصاب، بحشر أسلاك في غاية النحافة في دماغ لا يشعر بالألم في مفارقة فسيولوجية ملفتة للنظر لمعرفة التضاريس والخرائط التفصيلية لجغرافيا قشرة الدماغ وتلافيفه العميقة الرهيبة التي لا يقارنها أكبر أوقيانوس على سطح الأرض، واستمر في دراسته المكثفة التي بدأها منذ ثلاثينات القرن المنصرم ولقرابة نصف قرن من الزمن، وكانت النتيجة التي خرج بها مزلزلة لكل المعطيات العلمية السابقة، في انعطاف نوعي كامل في فهم الإنسان؛ فكما وصل (أبقراط)، الطبيب اليوناني، قبل 2500 سنة إلى تحديد مركز التفكير في الدماغ؛ فإن الطبيب الكندي (وايلدر بينفيلد) قلب الآية وعكس الصورة مرة أخرى، في انقلاب نوعي كامل لفهم آلية عمل المخ الإنساني، الذي ما زالت الجامعة الكندية المشهورة (مك جيل Mc Gill) في مونتريال تحتفظ بآثار عمله ومخبره، الذي أجرى فيه تجاربه المضنية على مرضاه، ووصل إلى نتيجة مفادها أن الدماغ هو غير العقل، وأنه لا يوجد مكان واضح في قشرة الدماغ لما نسميه التفكير أو الإرادة الحرة.
وبعد التأرجح في العثور على مركز التفكير عند الإنسان، رست أبحاث القرن التاسع عشر على اعتبار أن المخ هو بؤرة التفكير والوعي، وبرز السؤال عن مركز النشاطات الفكرية من السمع والبصر والحركة والحس والعواطف، فقفزت إلى السطح مدرسة يقودها عالم نمساوي مرموق وطبيب خبير في التشريح (جول Gall)، يزعم فيها الكشف عن أسرار العقل الداخلية من خلال معرفة تضاريس الجمجمة الخارجية، طالما كان الدماغ جالسا داخل تجويف القحف؛ وبوضع اليد على نتوءات وانخفاضات العظم الخارجية للرأس، واكتشاف الأماكن التشريحية، نهتدي إلى معرفة تضاعيف النفس الداخلية من خلال برنامج كامل لملكات النفس.
قامت مدرسة الرينولوجيا في حينها على ثلاثة مبادئ رئيسية:
ـ فهي اعتمدت أولا تقسيم العقل الإنساني إلى نظام (ملكات)، واعتبرت أن كل إنسان يملك 37 ملكة بالضبط لا تزيد ولا تنقص.
ـ واعتبرت ثانيا أن هذه الملكات السبع والثلاثين متمركزة في مساحة معينة في اللحاء (قشر المخ).
ـ واعتبرت ثالثا أن درجة نمو أجزاء المخ المقابل للملكات يمكن التأكد منها بتحسس البروزات الخارجية للقحف، أو عدم التساوي في المحيط الخارجي للجمجمة، وهو يفترض ضمنا تطابقا مدهشا بين السطح الخارجي، والجزء المزعوم الذي يقع تحته مباشرة.
اعتمدت مدرسة الفرينولوجيا نظام (الملكات العقلية) التي وزعت إلى قسمين، وجدانية وعقلية، والوجدانية بدورها تنقسم إلى فئتين، الميول الدافعة (مثل الملك والحب) والعواطف (مثل وعي الذات والحذر)؛ في حين تنقسم الملكات العقلية إلى إدراكية (مثل الحجم والشكل والنغمة واللغة)، وتأملية وتنقسم بدورها إلى فئتين المقارنة والسببية.
وهكذا ومن خلال خرائط الرأس يمكن تحديد شخصية الإنسان وملكاته العقلية، تماما وبشكل كامل وبضربة واحدة بما يشبه عمل السحر.
لاقت هذه النظرية التي قادها (فرانز جوزيف جول joseph gall frantz) و(سبورتسهايم sportzhein) رواجا هائلا في القرن التاسع عشر، وأصبحت لها مجلة دورية في بريطانيا. وأثناء صعود نجم نابليون بونابرت في أوروبا، تقدم العالمان المذكوران لعضوية الانتساب إلى المعهد العلمي الفرنسي، إلا أن نابليون لم يوافق لاستعار الروح القومية في ذلك الوقت، كونهما من جنسية نمساوية، أي من دولة عدوة، على الرغم من قيام لجنة فرنسية بتقييم النظرية وكانت مكونة من (كوفيو)، عالم البيولوجيا، و(بنيل)، طبيب الأمراض العقلية، وكلاهما كان ذا مستوى علمي مرموق، ولم يبديا أي أعراض علمية ذات بال ضد نظرية (الفرينولوجيا) التي تدعي معرفة الإنسان من خلال قياس ودراسة تضاريس الجمجمة الخارجية.
ولكن مدرسة (الفرينولوجيا) على الرغم من الجاذبية التي شعت منها وادعائها العريض وسمعة مروجيها الرصينة سرعان ما انهارت؛ فتفسير الإنسان يصمد أمام توقعات كل النظريات حوله؛ فهو عصي على تبسيط الأمور، وبات مغلقا عنيدا، مليئا بالرموز والأحاجي، أمام كل الطروحات الإيديولوجية المختلفة. ويعلق عالم النفس الألماني (فلوجل Flugel) على هذه الظاهرة بهذه الكلمات الهامة: «من سخرية القدر أن الفرينولوجيا لاقت من الرواج ما لم تلقه أي نظرية أخرى في تاريخ علم النفس كله، وكانت في الوقت نفسه أكثر النظريات بعدا عن الصواب، وهي تضرب مثلا صارخا على خطورة إقامة بناء علوي شامخ على ملاحظة غير دقيقة، ومنهج غير مضبوط، والأدهى من ذلك أن جول لم يكن دعيا ولا مهرجا، بل كان عالما ذا مقدرة معترف بها، مما جعل الدرس أكبر أثرا، وهو درس يحسن بعلماء النفس حتى الحاليين منهم أن يتأملوه». ويقول بورنج عندما يتناول هذا الموضوع في كتابه «تاريخ علم النفس التجريبي»، إنه يبين الأهمية العلمية العظمى لاستقلال التكنيك عن التحيزات الشخصية للباحث، مهما كان عبقريا.

كما وصل (أبقراط)، الطبيب اليوناني، قبل 2500 سنة إلى تحديد مركز التفكير في الدماغ؛ فإن الطبيب الكندي (وايلدر بينفيلد) قلب الآية وعكس الصورة مرة أخرى، في انقلاب نوعي كامل لفهم آلية عمل المخ الإنساني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى