شوف تشوف

الرأي

أزمة التصويت والمشاركة السياسية

عبد الإله بلقزيز

مقالات ذات صلة

منذ ابتداء تطبيقه، في صيغته الحديثة، قبل قرونٍ خلت، ظلت واحدةٌ من مشكلات التمثيل تُلازِم هـذا المبـدأ في النظام السـيـاسي الحديث، وتكشف عن الفجـوة السحيقة بين مضمونه النظري – بوصفه أساساً للتفويض ولتوليد الشرعية السياسية – وتطبيقه المادي القاصر عن تحقيقه التحقيقَ المادي المطابِق.
يمكننا أن نعبر عن هذه المشكلة المُزمنة على النحو التالي: إن عدد من يتمتعون بالحق في التّصويت في الانتخابات من المواطنين – بمقتضى قوانين الانتخاب المُطَبقة- لا يطابق، بل لم يطابق يوماً، عدد المسجلين منهم في قوائم الناخبين الذين يذهبون إلى الاقتراع في مراكز التصويت. دائماً ما يكون عدد الأخيرين أقل من عدد الأولين لأسباب عديدة (ليس العزوف عن التسجُّل في القوائم إلا واحداً منها)، مع أن أصوات الناخبين وحدها التي تشكل المؤسسات التي تمثل الجميع؛ أي تمثل – أيضاً- من ليسوا ناخبين ومَنْ لم يختاروا أحداً لتمثيلهم والنطق باسمهم.
من الممكن أن يقال إن مرد الفجوة تلك إلى أولئك الذين يمتنعون، مختارين، عن ممارسة حقوقهم (وواجباتهم) كمواطنين بالتسجيل ضمن قوائم النّاخبين الذين تحق لهم المشاركة في التصويت؛ فَهُم مَن يصنعون هذا الفراغ في المجتمع الناخب. وقد نجد مَن يبرّر لهم هذا المَسْلك بالقول إنّ الامتناع عن الانضمام إلى الكتلة النّاخبة هو، أيضاً، حقٌّ من حقوق المواطنة؛ فقد ينتمي إلى موقفٍ سياسي رافضٍ إما للعبة الانتخابية ككل، أو رافض للأحزاب السياسية القائمة التي تحتكر التمثيل و، بالتّالي، تحتكر التداول على السلطة، وأنّ الحريّات والدّيمقراطيّة تقضيان باحترام هذا الحق – مع ما فيه من سلبية- وعدم الاعتداء عليه بممارسة الإرغام عليهم.
ومن الممكن أن توضَع مسؤوليّة ذلك على الدّولة وأجهزتها؛ على قصور أدائها في إقناع سائر المواطنين بفائدة المشاركة في الحياة العامة، وتبديد شكوكهم أو ترددهم. وليس المقصود، في المعرض هذا، أنه عليها أن تتدخل – بقوة التشريع القانوني – لفرض إلزامية التسجل في قوائم الناخبين على المواطنين كافة (حيث لا إكراه في مجال الحقوق الديمقراطية)، بل كان يُفترض من أجهزتها (= المدرسة، الصحافة والإعلام، الأحزاب والنّقابات والمنظمات المدنية…) أن تقدم أداءً إقناعياً جيداً، في هذا الباب، يَحْمل المترددين على الانخراط الإيجابيّ في صناعة المصير السّياسيّ. وربّما وُجد من اعترض على تدخُّل الدّولة، رُمّةً، في هذا الشأن بدعوى وجوب التزامها الحياد في كل ما يتعلق بخيارات الناس التي تخضع لإرادتهم الحُرّة.
النّتيجة واحدة في الحاليْن: فجوةٌ بين المبدأ والتطبيق، ونقصٌ في نظام التّمثيل ينال من مُتَرَتباته السياسية والمؤسسية. والحقُّ أنّه لم يُبْذَل من الجَهْد السياسي لتصحيح هذا العَوار مقدارَ ما بُذِل من جَهْدٍ فكري في الفحص عنه ونقدِه. بل لربما وُجِد، في المجتمعات الغربية، مَن تراءتْ له مصلحةٌ في استمرار تلك الفجوة وتقليص الهيئة الناخبة، أو مَن خَشِيَ من تصويبٍ تتولد منه نتائجٌ لم تكن في الحسبان، أو هي قد تغير من خريطة التمثيل المألوفة، الأمر الذي يُستَحسن معه أن تبقى دار لقمان على حالها!
تأخذ هذه المشكلة، اليوم، شكلاً مضاعَفاً يتولد من شكلها البنيوي الأول، وتتمظهر في أزمةٍ جديدة من أزمات النظام الديمقراطي هي أزمة التصويت. إذا كان عدد الناخبين أمس، أعني منذ قرنين ويزيد، أقل من عدد مَن يحق لهم أن يكونوا ناخبين، فإن عدد من يشاركون في التصويت أقل، بكثيرٍ، من عدد المنتمين قانوناً إلى القاعدة الناخبة. وهذه المعادلة تستفحل مع الزمن فتزيد معها الفجوة – بين الناخبين والمصوتين- اتساعاً وتعاظُماً حتى أن نِسب المشاركة في التصويت، في بعض الديمقراطيّات، تَهْبط إلى ما دون نصف القوة الناخبة! إنها الأزمة التي أخذت اسماً معلوماً هو: العزوف عن المشاركة السياسية. وهو عزوف لا يطول الانتخابات فحسب، بل جميع أشكال المشاركة السياسية بما فيها الانتماء الحزبي. والمشكلة في أن أزمة التّصويت هذه تُسْفِر عن ظاهرةٍ شديدةِ الخطورة على الديمقراطية ونظامها التمثيلي؛ هي أن قلّةً قليلة (قد تكون أقل من نصف النّاخبين، وأقلّ من ثُلث من يحق لهم التّصويت) تقرِّر مصير المجتمع برمّته وتشكِّل المؤسسات السياسية للسلطة!
أما أم المشكلات، في خضمّ أزمة التصويت هذه، فتكْمَن في أنّ الذين يذهبون إلى مراكز الاقتراع للتّصويت، اليوم، هُم ممّن تدفعهم إلى ذلك دوافع عقائدية أو إيديولوجية أو ممن هم واقعون تحت تأثير الخطاب الشعبويّ التجييشي. وهؤلاء، في الغالب، من القوى الدينية أو اليمينية المتطرفة ممن تحتفظ ببعض الدافع الإيديولوجي بعد إذْ ضَؤُل تأثير الإيديولوجيات الكبرى في الحياة السياسية خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وحدها هذه القوّة تستفيد من ظاهرة العزوف السياسي ومن أزمة التصويت. ولنا أن نتصور أي مستقبلٍ سياسي ينتظر الديمقراطيات الغربية – والتي تحتذيها في بلدان الجنوب- مع هذه الأزمات المتناسلة من بعضها والمرتدّة إلى أزمةٍ أصل هي: أزمة النّظام التّمثيليّ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى