أدوية للسلوك والتعامل اليومي (2-2)
بقلم: خالص جلبي
4 ـ أحسن الإصغاء وفن الاستماع: فنحن قد أعطينا أذنين ولسانا واحدا لنسمع أكثر مما نقول، فيجب أن ندرب أنفسنا على صيام من نوع جديد ليس بالانقطاع عن الطعام، بل عن الثرثرة واللغو، ومريم صامت عن الكلام (إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا)، هل يمكن ضبط لساننا لأطول فترة ممكنة؟ وهل يمكن أن ندرب أنفسنا أن نسمع للنهاية، قبل أن نجيب؟ إن الشرط الأول في أدب الحوار هو الاستماع ويخضع بدوره لقواعد خاصة به؛ فيجب أن لا نصخب ولا نعجب ولا نشغب ولا نجعل الدعوى دليلا. وحديث الطرشان هو حديث شخصين في الوقت نفسه، فكل يتكلم لنفسه وهو طريق مسدود. ومعظم مشاكلنا تخضع لقاعدة حوار الصم فهي معلقة إلى أجل غير مسمى. والعالم العربي بهذه الطريقة يتحلل إلى ذرات رمل في جغرافيا صحراوية يعيشها العقل العربي.
الرمل لا يمسك الماء ولا ينبت فيه الزرع، ولم يخلق الله الإنسان من قبضة رمل، بل من طين لازب متماسك. وتنبت التربة الأوروبية الزرع الأخضر بشكل رائع، بفعل تماسك تربتها الطينية. والمجتمع (الطيني) المتماسك يخرج منه نبات أخضر ويمسك الماء، وهو المبني على شبكة علاقات متماسكة معقدة. أما المجتمع الرملي الصحراوي الذي يتحول فيه الناس إلى ذرات رمل، فلا خير فيه.
5ـ عبر ببساطة ووضوح: فلاشيء مزعج كالإبهام والتعقيد والالتفاف على الواقع بالكلمات في تقليد كامل لأعمال السحرة، الذين ينطقون ولا يعبرون ويتكلمون ولايُفْهَمون. وهذا يذكرنا بمشكلة الحداثيين الجدد، فهم يتكلمون لأنفسهم بلغة ومصطلحات مقتلعة من بيئة أوروبية مترجمة إلى لغة جديدة، تفتقر واقعها الملائم لها فلا تنبت. من أمثال كلمة الديمقراطية والبرلمان والصحافة التي تمثل أشكالا وهمية من حقائق أوروبية، والكثير الذي ينقل من بيئته ليزرع في بيئة مغايرة تموت روحه، ويحافظ على شكله في قفص محنط من البيولوجيا، والمومياء هي شكل بدون روح تذكر بالتاريخ، وهناك من الأفكار الميتة ما فاحت رائحتها وتحتاج إلى أن تدفن بسرعة قصوى في جنازة لائقة بها.
6ـ تعلم طرح السؤال السليم: فالسؤال الصحيح يشكل نصف الإجابة. السؤال يفتح مغاليق الإجابة، ومع التقدم في اكتشاف تشريح المعضلة يمكن القيام بجراحة تفكيكية عليها وفهم آليات حدوثها.
7ـ فرق بين المعقول واللامعقول: فلا تصدق كل ما يقال، ولا تعبر بسخافة واستخفاف، بل بمسؤولية. والنطق ليس قذف هواء وتصويت أبله، بل هو معان تتدفق من ملكوت الفكر تمتطي متن الفيزياء على ظهر الموجات الصوتية. والحوادث تخضع لجدلية خاصة بها، فيجب مقارنة الأحداث بنظائرها وسبرها (بمعيار الحكمة والرجوع إلى قواعد السياسة والعمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ومقارنة الغائب بالغائب والحاضر بالذاهب، كي يأمن فيها الإنسان من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق)، على حد تعبير ابن خلدون.
8ـ املك قدرة الاعتراف بالخطأ والاعتذار بدون تأخير: الفرق بين الشيطان وآدم هو ركوب الرأس وعدم الاعتراف بالخطأ عند الشيطان، في رحلة مع الفقر والفاحشة واللاتوبة إلى الأبد في لعنة إلى يوم الدين. أما الاعتراف بظلم النفس الذي مارسه آدم وزوجه، فقد امتلك بهذه الطاقة قدرة التصحيح الدائم للفوز بجائزة الخلافة عن الله، فالنقد الذاتي هو آلية التطهير الدائم من العفن الداخلي وقدرة تصحيح الأخطاء والارتفاع بدون توقف.
9ـ التغيير شيء حتمي: صدقت بهذه القاعدة الأخبار، ودُشنت على متنها فلسفات كاملة. الصيرورة تأخذ برقبة البيولوجيا، فتنقل الإنسان من طور إلى طور، من الضعف إلى القوة، ومن القوة إلى المشيب، ومن الموت إلى الحياة وبالعكس، وتعتلي متن الكون كقانون لا محيص عنه أو مهرب. من حيوان الخلد إلى المجرات، ومن أبسط الأفكار إلى أعظم الإمبراطوريات.
10ـ لا تنجز عملين في وقت واحد: فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، والتتابع سنة كونية في إنجاز الأعمال، دفع الأعمال بالتساوي غير دفع عمليتين بقناة واحدة. الإنجاز المتوازي نشاط وحيوية فائقة، وازدحام العملين في قناة واحدة فوضى وتعضل، فلا تولد وحدة العمل، وأهمية هذا الكلام لمسته أثناء إقامتي في ألمانيا، حيث يواجه الفرد مشاكله اليومية على هذا النسق.
عندما وصلت محطة نورمبرغ، لفت نظري وقوف الناس بهدوء على شكل رتل بدون مناظر الشرق من التدافع وتكوم اللحم البشري، فلا ترى سوى الأكواع من الجوانب والرؤوس من فوق ويسمونها بالألمانية (شكل الأفعى SCHLANGE)، لشكل تتابع الناس ولاحظت أن الموظف كل وقته ووجهه للمراجع الأول، فإذا خاطبه أحد لم يجبه، فإذا فرغ من الأول ختم عمله هل هذا كل شيء؟ هل عندك المزيد من الأسئلة؟ تكررت هذه المشاهد حيث توجهت في البريد والبنك والدائرة الحكومية. إن الموظف الألماني حريص على حسن العمل أكثر من كثرته، متبعا نهجا قرآنيا بدون آية (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، في الوقت الذي لا يستفيد العالم الإسلامي من الآية، لأنه يقرأها بعيون الموتى، وهي إشكالية ضخمة في مشكلة التعامل مع النصوص، فمع أن الحديث يذكر أن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، إلا أننا نعمد إلى إغراق الطريق بكل القاذورات محولين عالمنا إلى نموذج صاعق للقذارة.
الكثير الذي ينقل من بيئته ليزرع في بيئة مغايرة تموت روحه، ويحافظ على شكله في قفص محنط من البيولوجيا، والمومياء هي شكل بدون روح تذكر بالتاريخ، وهناك من الأفكار الميتة ما فاحت رائحتها وتحتاج إلى أن تدفن بسرعة قصوى في جنازة لائقة بها