أدرعي ـ كوهين.. مكر الخطاب وسذاجة التلقي
سامح المحاريق
باءت محاولة الدعوة لمقاطعة أفيخاي أدرعي، من قبل رواد مواقع التواصل الاجتماعي بالفشل، فالصفحة الخاصة بالناطق باسم جيش الدفاع الإسرائيلي في الإعلام العربي، كما يعرف نفسه، ما زالت تحظى بأكثر من مليون ونصف المليون متابع على موقع «فيسبوك»، بالطبع معظمهم من الناطقين بالعربية، ونسبة كبيرة منهم من العرب، فأدرعي لا يعتبر نجما في المجتمع الإسرائيلي، وربما يجد فرصة للحركة بكل حرية، لأن الذين يمكن أن يقابلهم في الأماكن العامة من المهاجرين من شرق أوربا لا يعرفونه، فما سبب هذه المتابعة الكثيفة التي يحظى بها بين المتابعين العرب؟
يعرف أدرعي، أو يتعامل مع أجهزة تعرف المزاج العربي بشكل جيد، وبالتأكيد فإن التعليقات التي تتركز على مناكفته، تلقى تحليلا عميقا من قبل أجهزة مختصة بالأمر، وكذلك التي تحاول محاورته، أو تقبله، ويمكن أيضا للراغبين في التواصل معه، أو مع فريقه، أن يضغطوا على أحد الخيارات التي يتيحها لبدء المحادثة، وهو يجيد أن يستقطب الأضواء بطروحاته، فيشاغب مرة على مغنية لبنانية، ثم يتطوع للتهنئة بمناسبة ما، أو يتقدم بدعوة للسلام والتعايش، ولا يتردد في التحول إلى الإفتاء والدعوة في شهر رمضان وهو يجمع حوله جنودا مسلمين في الجيش الإسرائيلي، للتأكيد على الأجواء الروحية للشهر الفضيل!
قبل فترة انضم إلى أدرعي أكاديمي إسرائيلي آخر يتحدث بالعربية، ويطلق آراء عدوانية تجاه الدول العربية، وينذر ويتوعد باقتراب الزمن الإسرائيلي، وفي تغريدة أطلقها أخيرا على موقع «تويتر»، ينذر الأردن بغزو إسرائيلي خاطف، ينتهي بشرب الكوكتيل في أحد المطاعم الشهيرة في قلب عمان، واستطاع كوهين أن يسحب المطعم إلى الرد عليه، وأن يشغل الأردنيين الغاضبين جدا من وقاحة تغريدته، وبذلك يتضاعف الاستثمار الإسرائيلي وتتنوع توجهاته، بين الرسمي الذي يمكن تحمل تبعاته مع أدرعي، والشعبوي الذي يمكن التنصل منه بدون تكلفة مع كوهين. تعرف إسرائيل أن وجود ممثليها استفزازي، وليس تبشيريا بالمعنى السياسي أو الاجتماعي، ولكنه وجود ينطوي على فرص كبيرة من التشتيت، ويولد كثيرا من أسئلة الـ(ماذا لو؟) كما في حالة كوهين الذي يركز على معايرة الأنظمة العربية بالفساد والقمع، ويقدم إسرائيل بوصفها بديلا يمكنه قيادة المنطقة للأفضل.
هل يجب أن يتوقف المتابعون العرب عن الاطلاع على هذه الصفحات؟ هذا أمر من الصعب تحقيقه، فالدوافع كثيرة، وأهمها الفضول ومحاولة الرد على الأكاذيب وتفنيدها، ويا له من تصور ساذج لمن يفعلونه، أو الاستفزاز مقابل الاستفزاز، أو أيا تكن الأسباب، ولكن لا يوجد ما يمنع من وجود العرب على هذه الصفحات، التي صنعت وصممت خصيصا من أجلهم، ولكن أليس ما تفعله إسرائيل يمثل عملية تأطير فكري؟ بمعنى أنها تقدم وجبة لفضول المتابع العربي، تشغله وتشتت انتباهه، وتبعده عن الفضول الذي يدفعه إلى قراءة إسرائيل من العمق، والوقوف على جوانب ضعفها وهشاشتها.
بداية، التأطير هو عملية لمحاصرة الطرف الآخر، والهبوط بخياراته إلى الحد الأدنى، كأن يسأل صاحب المنزل ضيفه إذا ما كان يفضل الشاي أو القهوة؟ وبالطبع فإن الضيف لن يطلب في هذه الحالة عصير البرتقال أو الليمون، فهما خارج العرض، حتى لو كانا متوفرين لدى المضيف، وما تفعله إسرائيل قريب من ذلك، إذا أردت أن تتعرف علينا من موقعك كمواطن عربي غير متخصص أو متعمق، فلديك أدرعي أو كوهين، وذلك يكفي، ستجد معهما أيها الضيف، التسلية أو العبث، وسيقدمان لك فرصة تفريغ غضبك أو غيظك، وسيشغلان وقتك، فلا تنصرف إلى التفتيش في الدفاتر القديمة، وما دمت منشغلا جدا مع هذه الثلة، فأنت لن تمتلك وقتا للاطلاع على الخطاب الإسرائيلي الذي يتم تقديمه إلى الغرب، والطريقة الجادة التي يجري تقديمه بها.
يجري تأطير المتلقي العربي ليتوزع بين هذه المنصات الخالية من المحتوى تقريبا، منصات التشويش والتهديد التي لا تهتم بالمحتوى، فتطلق بالونات الاختبار هنا وهناك، وتخرج بنتائج شبه مجانية عن الواقع العربي، بينما تقف إسرائيل في خطاب على قدر كبير من اللؤم لتلعب دور الضحية، وتصدر إلى العالم روايتها التراجيدية، ولذلك ربما من المناسب التعرف على نسبة العرب الذين قرؤوا ما يسمى الأدب الصهيوني مع شموئيل عجنون وإيزاك سنجر، اللذين تحصلا على جائزة نوبل للآداب، وفداحة القصة التي قدمت من خلالهما للعالم، وما هي نسبة العرب التي استطاعت أن تتطلع على أنسنة الجلاد ومساواته مع الضحية، في أعمال عاموس عوز، أو سمعوا عن إليعيزر بن يهودا الذي استطاع أن يخرج العبرية من قبرها، كلغة محاصرة في الكهنوت ليصطنع من اللهجات الشرق أوربية لغة عبرية حديثة، تستطيع دفعات المهاجرين القادمين إلى أرض الميعاد أن تعتبرها لغة مشتركة بينها.
نجحت إسرائيل في صياغة خطاب للمتلقي العربي، وشاغلته في خطابها بكل ما يتعلق بالعرب، وبقيت اللعبة الكبيرة في تقديم إسرائيل ومشروعها للعالم متوارية وشبه مجهولة بالنسبة إلى المتابع العربي، الذي يجد نفسه محاصرا بمئات الأسئلة القائمة على افتراضات خاطئة من نوعيات أخرى من المتلقين، الذين حصلوا على روايات إسرائيلية أكثر إتقانا وتماسكا، بينما ينشغل هو بالفتات الذي يلقيه أدرعي وكوهين باستخفاف ومكر.