أحمد عصمان معارضا
لم يستسغ مؤسس تجمع الأحرار أحمد عصمان معنى أن يصبح حزبه معارضا. ونقل عنه القول في جلسة خاصة إن التوجهات العامة التي تنهجها السياسة الحكومية، لا تنفصل عن تلك التي أقرها حزبه في أرضيته الفكرية وبرنامجه السياسي والاقتصادي، وسيكون من باب التناقض البين أن يعارض في استمرار تنفيذها، وإن لم يشارك في السلطة الحكومية.
كان الرجل يحظى بتقدير الفرقاء السياسيين، بمن فيهم من عارضوا تأسيس حزبه، وانتقدوا بشدة طبخة حيازته الغالبية النيابية، قبل أن يصبح حزبا قائم الذات، تشكلت قيادته التأسيسية من وزراء ومسؤولين إداريين ورجال أعمال خاضوا استحقاقات العام 1977 كمستقلين، لا يجمع بينهم سوى بطائق اللون الأبيض التي سيتم لاحقا إلغاؤها من مواصفات رموز الترشيح.
ومنذ أن رفض الزعيم علال الفاسي، باسم «الكتلة الوطنية»، المشاركة في حكومة يقودها وزير أول تقنوقراطي، بلا انتماء حزبي، بدأ التفكير في الملاءمة بين الانتساب الحزبي واستمرارية التدبير السياسي بواجهة حزبية موالية. وساعد رصيد التقدير الذي يحظى به أحمد عصمان كمدير سابق للديوان الملكي، وعضو في المجلس الاستشاري الوطني الذي رأسه الزعيم المهدي بن بركة، ووزير أول عام 1972، في إضفاء هالة خاصة على تجربته. إذ لم يخض أي مواجهات مفتوحة مع المعارضة، وتمكن في ظل الفريق المحيط به من أن يعكس نموذج رجل التوافق.. لأنه كان يدفع في اتجاه الارتقاء بالممارسات الحزبية، على رغم الضغوط والإكراهات. وفيما كان كثير من رفاقه يتلقون الضربات والانتقادات من المعارضة، كان ينأى بنفسه عن الدخول في معارك من هذا النوع.
المرة الوحيدة التي عاينته فيها غاضبا، يغطي وجهه الدخان الكثيف المنبعث من سيجاره الكوبي، لم تكن في مواجهة انتقادات المعارضة، بل ركزت على التصدي لفكرة أطلقها المستشار المستنفذ أحمد رضا كديرة حول إمكان محاورة قياديين في جبهة بوليساريو. فقد اعتبر الموقف خروجا عن المنهجية التي يدار بها الملف، وقال لي ضمن ما أذكر إن كديرة «لا يمثل سوى نفسه».
الأكيد أن موقفا بهذا التحول في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، كان يثير الكثير من الجدل. لذلك فقد عارض أحمد عصمان بعض الأفكار التي دعت إلى حل حزب الاتحاد الاشتراكي، على خلفية أحداث العام 1981. وكان يؤمن بأن قوة المغرب في قوة وفعالية أحزابه وتجربته السياسية، وإن كانت في بداية الانعطاف نحو ملامح محتشمة بمفهوم تعددية غير مكتملة البناء.
كان يميل إلى تفهم مواقف المعارضة كمكون أساسي للتجربة السياسية، لكنه يرهن المواقف بمعارضة البرامج والأفكار. لذا صعب عليه أن يتقبل فكرة خروج حزبه إلى المعارضة، جراء خلافات نشأت حول تشكيل الحكومة.
في معطيات أنه قبل هذا الانعطاف الذي أملته اعتبارات المرحلة، عبر بعض القياديين البارزين وقتذاك في تجمع الأحرار عن عدم رضاهم على أن يكون حزبهم مجرد أداة تأثيث للمشهد السياسي، ومنهم من اعتبر أن قاموس المعارضة ليس ملكا تجاريا يحتكره البعض ويحظر على البعض استخدامه. ووصل الأمر إلى درجة طلب التحكيم، انطلاقا من أن أي حزب سياسي يمكن أن يختار موقعه، وأن انتقاد أداء الحكومة والتلويح بمفاهيم حقوقية وترشيدية، من قبيل أوضاع حقوق الإنسان ومواجهة إغراقات السلطة، ليس امتيازا لأي طرف.
من بين الدوافع التي أتت إلى بلورة هكذا قناعات، أن تجمع الأحرار ضم في مراحله الأولى شخصيات قدمت من اليسار والمعارضة. إلا أنها بغاية «التكفير» عن مواقفها الجديدة صارت تعتبر المعارضة عدوها الحقيقي. وسمعت من بعض الشخصيات المحسوبة على هذا التيار، أن أحمد عصمان لم يكن يجاريهم في هذا المسعى. وعندما انتخب رئيسا للبرلمان، عرفت الساحة السياسية أول مواجهة حاسمة بين المعارضة والغالبية، شملت نقاشا حادا وعاصفا، عبر ملتمس الرقابة الذي هم إطاحة حكومة الوزير الأول آنذاك عز الدين العراقي. وعلى رغم انتساب أحمد عصمان إلى ائتلاف الغالبية، فقد أدار الجلسات العاصفة لتلك المواجهة بحنكة وبرودة.. لأنه كان يجسد دوره الاعتباري كرئيس للمؤسسة التشريعية، وليس كزعيم حزب صوت فريقه ضد ملتمس الرقابة.
بهذه المواصفات كان عصمان يضع مسافة بين مسؤولياته الحزبية والتشريعية وقربه إلى مراكز القرار. غير أن الاقتراب إلى فكر المعارضة خلال تلك الفترة كان مشوبا بالحذر، يجلب على داعمي هذا التوجه الكثير من المصاعب، لكن ذلك لم يحل دون إبداء السلطة السياسية تفهما لمسار التحولات المفروضة، بل إن الخطاب الرسمي كان ينحو في اتجاه ملامسة صفوف المعارضة.
ثم جاءت التحولات الجذرية التي قلبت موازين المعادلات، بعد انهيار المعسكر الشرقي، وحدث تقارب أكبر في الأفكار والبرامج التي تكاد تستقر عند حدود التدبير العقلاني الذي صارت له مفاهيمه باسم الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة ومواجهة أنواع الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية.
كم كانت المعارضة مؤثرة وتجذب أكثر!