شوف تشوف

الرأي

أحلام مضطربة

من فرط الأرق والتفكير المحموم لم أعد طبيعيا، ولم أعد كما كنت في صباي، أحط رأسي على الوسادة وتستلمني الملائكة إلى رياحينها، تحلق بي بين الزهور والعطور، تنشد لحن الحنان والحب لأنام في سلام، تحكي قصص الفضيلة والمغامرات الشيقة لأغفو بين أكفها في انتظار إشراقة الصبح المبكر لأغرد بنغم الحياة، وألوذ في شيطنة الصبا رفقة الأتراب.. لكن اليوم كل شيء تغير، شاخ الكيان قبل أوانه وأصابته أم الأمراض العضوية والعقلية، شغلته هموم كثيرة ولم يعد قادرا على التحمل، أصابه النمل الحفار وحرمه الراحة والسكينة.
بين الأمس واليوم تغيرت أمور كثيرة، كبرت وأصبحت أفكر في أشياء فوق طاقتي يفرضها علي الواقع الذي يحاصرنا بأسلاكه الشائكة التي تدمي كل منطقة حساسة فينا. أصبح رأسي يمور ويشتعل ويضطرب كما لو كان حلبة ثيران، وبتُّ أحرس السماء التي كانت في الأمس تحرسني، وأمسيت أتقلب في سريري كما لو كانت تحتي أشواك ومسامير وثعابين، ولم أعد أسلم روحي كما كنت حين كان رأسي فارغا من المشاكل، ولم تعد تنفع معي الأقراص المنومة التي أستجدي الصيدلي حتى يرأف علي بها، فهو يقول إن الأمر ممنوع ما لم أسلمه ترخيصا من طبيب مختص، ولولا الصداقة التي تربطني به، وعار الجار على جاره، ومعرفته بأحوالي وبتهميشي وبأحلامي المغتصبة لما منحني هذه الأقراص التي تصنف من المخدرات. وعندما يطلق الوسواس سراحي وترحمني تلك الغفوة قبيل الفجر أو بعيده، تحاصرني أضغاث النوم بكوابيس ملعونة.
الكثير من الأحيان أحلم بهرج الناس الذين يتجمهرون أمام البيت لنعي وجهي المشؤوم. غريب! كم هو صعب أن يعيش المرء مماته بتفاصيله. موته وهو حي، وموته وهو منتهٍ. أما موتي الأول، فيتمثل عندما أسير ككلب أجرب لا أحد يريد أن يكلمه وكأنهم يخشون أن أعْدِيهم ببؤسي وبطالتي ولعنتي، وعندما أشقى من أجل لقمة العيش التي ينهبها من أمامي أولاد الحرام بكل وقاحة وقذارة. أما موتي الثاني، فعندما أحلم بمراسيم جنازتي. أرى الناس تسرع بي نحو الحفرة وكأنها تستعجل الخلاص من رهطي بعدما يشطفني الفقيه بالماء البارد ويكفنني وهو يلعن جلدي العصي، لتودعني الجماعة بقسوة في الحفرة كما لو كنت جيفة أو قمامة، وترجع إلى قصع الكسكس وذكر مناقبي التي يُحَرّف ويزيف فيها جزء كبير. أرى ظلمة القبر بعدما انتهى الطلبة من تلاوة سورة «يس» وطرقوا أذني بوقع أقدامهم التي تدك الأرض بقسوة. أرى الكثير ينهش الكسكس وأطباقا أخرى بوحشية وكأنهم يأكلون من لحمي الذي أخذت وفود الدود تتسابق نحوه. أرى كل ما يصيب الميت الحقيقي ولا أستفيق حتى أصطدم بحجر القبر وتفزع قلبي ثعابين وزواحف أخرى في أشكال مخيفة، كما كان يرعبنا فقيه وهو يحدثنا في المناسبات عندما يفيض بطنه ويضيق جلبابه، وأحيانا كثيرة يطول بي الحلم حتى يأتي الملكان ويسألاني عن ربي وديني والنبي الذي بعث فينا. أعيش الموت وكأنني أدفن حيا، وأرى أشياء تجعلني أراجع ذاتي وأبني أسسها من جديد. هذه هي لعنة أحلامي.
نهضت بالأمس وتوجهت إلى مقهى في رأس الدرب. دخنت لفافة حشيش مركزة وخالصة أو ممزوجة بروث الحمير، لست أدري، ولا يهم، وشربت قهوة سوداء بدون سكر حتى أتوحد مع المرارة في كل شيء، ثم سافر بي خيالي بعدما هجعت على إيقاع الفوضى والتسيب وأبكرت على شجار بالشواقير في الدرب. رأيت أنني أصبحت رئيس دولة، وكثيرا ما يراودني هذا الحلم الخبيث رغم أنفي، ورغم أن الفروق كبيرة وأن هذا المنصب من حظ الذين يولدون بملاعق من ألماس ولؤلؤ، ورغم أنني لا أريد هذه المهمة، لا أريد أن أصبح ديكتاتوريا، أتنقل بين القصور كطاووس مختل، أنفق ميزانية خيالية كفيلة بإنقاذ شريحة واسعة من المعوزين، أطالب في الطعام بكبد الحمام وقلب الهدهد والجمال والغزلان المشوية، وبعدما أصاب بالتخمة أغطس في مسبح الخمرة الذي تحفه حوريات من كل الجنسيات وأولاد الشعب يكدحون ويعرقون ويمرضون وينتحرون. أكره هذه الأنانية والاستغلال واللا المسؤولية. فالراعي الذكي والمسؤول المهتم هو الذي يقود قطيعه إلى المروج لا إلى الأحراش.
أما هذا الصباح فقد جرفني خيالي إلى وأد كل هؤلاء السكارى والحشاشين وإن كنت منهم، لأن الواقع أكرهني على إدمان كل ما هو مضر. تخيلتني أخطب أو أرسل مرسوما آمر فيه بجمع كل الحثالة والأوباش والمعربدين في المجتمع وإرسالهم إلى فلسطين. أرسلهم إلى هناك ليعربدوا بسيوفهم على الإسرائيليين، وعوض أن يسبوا الرب هنا يسبوا الإسرائيليين هناك، أمْ أن هذه الشجاعة والرجولة المزيفة لا تمثل سوى في الأوساط الشعبية. فلا يعقل أن يباد شعب طاهر ومثقف وإنساني والحثالة يمثلون هنا بطولة أفلام الرعب الأمريكية بأمانة وإخلاص. كما أصدرت أوامري بتطهير البلاد من كل الثعابين والخنازير والتماسيح التي تأكل وتتبرز بدون فائدة، وكلها سأرسلها لتجاهد في سبيل الله. فماذا ستفعل هنا؟ وما هو الأفضل لها؟ هل أن تنال رضا الله وطاعته بالجهاد أم إغضابه بعقوق الوالدين والاعتداء على الأبرياء. وسافر خيالي أيضا نحو عوالم أخرى لتشريع قانونها المريض. رأيتني أصدر مرسوما حازما يقر بإنشاء مدارس لتعليم الأمهات اللواتي ينشغلن بالثرثرة وزيارة الأضرحة والمشعوذين. فلا يمكننا أن ننتظر جيلا صالحا من أمهات جاهلات… وبينما أصدر أوامري ربت النادل على كتفي، حسبته في الوهلة الأولى مستشاري الخاص، لكنه سيعيدني إلى رشدي وهو يحذرني بإخفاء لفافة الحشيش لأن سيارة شرطة ربضت أمام المقهى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى