تذكرون بلا شك تلك الحافلة المخطوفة التي تسمى تونس، ويقودها سائق لا أحد يدري إلى أين سيأخذها.. ها قد زادت هذه الأيام من سرعتها على طريق سريع كله مطبات وحفر، والناس داخلها في هرج ومرج بين متذمر ومشلول وشامت، لكن لا أحد منهم تجرأ على افتكاك المقود لوضع حد لرحلة الموت هذه.
ليلة الاثنين الماضي لم تكن عادية أبدا، فالسلطات الأمنية لم تجد من طريقة لإلقاء القبض على بعض من قررت اعتقالهم سوى مداهمة بيوتهم ليلا، وبأعداد كبيرة، بعد إغلاق الشوارع المؤدية إليها، ودون احترام الإجراءات، مع ممارسات متهورة لم تحترم أحدا، وفق ما ذكره أهالي المعتقلين الذين لا يعلمون حتى إلى أي جهة تم اقتياد الموقوفين.
موجة الاعتقالات الأخيرة ضمت شخصيات اجتماعية وسياسية معروفة، من وزراء سابقين ورجل أعمال ومحامين ونشطاء معارضين ومدير إذاعة خاصة، وما يجمع بينهم، بدرجات مختلفة، معارضتهم لنهج الرئيس قيس سعيّد، أو على الأقل عدم التحمس لما فعله ويفعله منذ أكثر من عام ونصف العام على الأقل.
كان بالإمكان استنطاق كل هؤلاء، وربما إصدار بطاقة إيقاف في حق بعضهم، بكل هدوء وباحترام كامل للإجراءات، ثم لتأخذ العدالة مجراها فيتحمل كل شخص تبعات ما قد يكون قام به، فيطلق سراح من يطلق سراحه، ويحال إلى المحكمة من يحال، على أن تكون محاكمة عادلة تصان فيها كل الحقوق وتحترم فيها كل الضمانات، دون أحكام مسبقة أو تعليمات كيدية… لكن ذلك كله لم يحدث والغرض واضح: بث الرعب في نفوس الجميع، فيتراجع من يتراجع ويخاف من يخاف ويصمت من يصمت، لتواصل الحافلة سيرها المجنون السريع على غير هدى.
لم يجن التونسيون من ثورتهم عام 2011 سوى زوال الخوف من أي تعسف وانطلاق ألسنتهم حرة تقول ما تشاء، غثه وسمينه، وما يجري حاليا من اعتقالات، بهذه الطريقة الاستعراضية الخشنة، لا عنوان له غير محاولة إعادة مناخ الخوف وإلقام المعارضين حجرا حتى يخرسوا إلى الأبد. وما يزيد من تأكيد هذا التوجه ما يخوض فيه رئيس الدولة في كل مرة مع وزيرة عدله، وهي قاضية سابقة للمفارقة القاهرة، من استعجال بين في أن يقوم القضاء بما يريده القيام به. آخر هذه الاجتماعات تم، الجمعة الماضي، وفيه «جدد رئيس الجمهورية التأكيد على الدور الذي يضطلع به القضاء في هذه المرحلة الدقيقة التي تعيشها تونس، مشددا على ضرورة محاسبة كل من أجرم على قدم المساواة، فمن غير المعقول أن يبقى خارج دائرة المحاسبة من له ملف ينطق بإدانته قبل نطق المحاكم، فالأدلة ثابتة وليست مجرد قرائن» (هكذا..!) وفق بيان رئاسة الجمهورية، الذي أضاف أن الرئيس «أشار إلى أن الشعب التونسي يريد المحاسبة وقد طال انتظاره، والواجب المقدس يقتضي أن تتم الاستجابة لهذا المطلب في أسرع الأوقات، لأنه مطلب شعبي مشروع».
هذا «المطلب الشعبي المشروع» الذي لا ندري كيف تم التعبير عنه ومتى وإلى من خول الشعب مهمة تحقيقه، لم تر السلطة الطريقة المثلى للاستجابة السريعة له، سوى بمداهمة البيوت وترويع أهلها واقتياد الناس في جنح الظلام بشكل لا هدف له سوى الترويع فيخاف من هو في حالة سراح قبل وأكثر ممن جرى اعتقاله، علما أن وزير الداخلية محام سابق، وتلك مفارقة قاهرة أخرى، فيما تبقى المفارقة المروعة الأكبر بلا جدال أن الرئيس نفسه أستاذ قانون دستوري!
ومع عودة شبح الخوف والتخويف، عادت كذلك مفردات خال التونسيون أنها اختفت تماما من التداول مثل «التآمر على أمن الدولة»، وتصوير اجتماع على مائدة غداء للحديث في وضع البلاد على أنه «اعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة» وغير ذلك، لتتحول الإدانات من ساحة المحاكم إلى فضاءات مواقع التواصل ومداخلات تلفزيونية، تمعن فيها وجوه معروفة أدمنت التطبيل للرئيس، وتبرير وتسويق كل ما لا يمكن تبريره أو تسويقه.
ثم إن إيقاف نورالدين بوطار، مدير إذاعة «موزاييك» الخاصة، وهي من بين وسائل الإعلام القليلة التي ظلت محافظة على نفس نقدي تجاه ما يجري في البلاد من عبث، ودون أي تهمة محددة، ما هو إلا رسالة واضحة وضوح الشمس، فقد سبق للرئيس أن عبر علنا عن امتعاضه من انتقاد بعض معلقي هذه الإذاعة لسياساته، وذلك حين سأله أحد صحافييها عن شيء آخر، على شاكلة دونالد ترامب في تقريع تلفزيون «سي إن إن» المعارض له، ردا على سؤال لأحد مراسليه. التحقيق مع الرجل لم ينطلق من تهمة معينة، بل خاض في الخط التحريري للإذاعة، وفق ما تناقله مقربون منه، والرسالة هنا هي لكل الصحافة أنه لم يعد مسموحا البتة انتقاد الرئيس، لأنه باختصار يعتبر نفسه «إماما معصوما» كما وصفه أحد مناصريه السابقين، سيما وقد صرح بأن تونس الآن في «معركة تحرر وطني» وتمتلك «صواريخ عابرة للتاريخ»، وأنه سيعبر بها «من ضفة إلى ضفة»، مع أنه يقول إنها الآن في »العلو الشاهق».
محمد كريشان