أجدادنا القراصنة.. المصارعون البائدون للأمواج
«هل كان أجدادنا قراصنة فعلا؟ وهل كان المجاهدون البحريون يحاربون باسم الله وحده، أم أنهم كانوا يرغبون في حمولة السفن التي يهاجمونها؟ في هذا الملف قصص مثيرة عن الوجه الآخر لعمليات القرصنة التي جرت وقائعها في السواحل المغربية. ستتعجبون من الطريقة التي استطاع بها بحارة هواة على ضفاف مدينة سلا الوصول إلى إيرلندا، وتشكيل تهديد حقيقي لأكبر السفن البحرية بمعايير ذلك الوقت».
«لقد جردوني من ثيابي تماما وقتلوا صديقي. كنت في المناوبة الليلية ولم أنتبه إلا وعشرات الملثمين يتسلقون السفينة وبسرعة البرق بدؤوا في قطع الحبال بالسيوف، فيما كان بعضهم يحملون الصناديق ويحطمونها ويكسرون الأبواب بحثا عن البوابة المفضية إلى أسفل السفينة، حيث الحمولة. قتلوا كل الذين كانوا يقاومون الاقتحام. تعرضت للأسر لأنني كنت نائما. لم أقاوم، واقتادوني إلى ركن سرعان ما عادوا ليضعوا بجنبي العشرات من زملائي. كان ممنوعا علينا الحديث». هذا جزء من شهادة، قال مصدرها إنها مؤثرة جدا، لكنه لم يذكر، ولا يبدو أن السبب بريء، الحقبة التي تعود إليها. لكن المرجح أنها تعود إلى فترات الغزوات البحرية، التي وصفها الإسبان بعمليات القرصنة التي تعرضت لها سفنهم في أثناء عبورها، أو رسوها في السواحل البحرية المغربية.
المثير في قصص حياة القراصنة المغاربة كما وصفتهم كتب التاريخ، أو «المجاهدين» كما وصفتهم كتب أخرى، أنهم كانوا يعيشون حياة مستقلة داخل البحر، واستطاعوا بقدرة قادر أن يزعجوا راحة الدول الكبيرة، حتى أن إسبانيا وإنجلترا كانتا قد أعلنتا التأهب التام جراء تضرر عدد كبير من السفن التابعة للدولتين من غارات بحرية في نفس المواقع، ليتبين في الأخير أن الأمر كان يتعلق ببحارة المدن الساحلية المغربية، الذين كانوا يستغلون الأبراج التي تم بناؤها في وقت سابق على يد الإسبان والبرتغال، لمراقبة السواحل وشن الغارات بسفن، الأكيد أنها لم تكن لا بقوة ولا بجودة السفن الأوربية، وهو الأمر الذي تسبب بأضرار بالغة في مجال التجارة.
الأسرى، هم أكثر الغنائم تكلفة. وبقيت هذه الشوكة في حلق الحاكمين، خصوصا في إسبانيا والبرتغال، إذ مضت سنوات طويلة، سيما ما بين سنوات 1750 و1820، لم ينجحوا خلالها في إعادة الأسرى التابعين لهم إلى أسرهم، ومات أغلبهم في المغرب، بعد أن تم أسرهم في عمليات قرصنة بحرية.
المثير في هذا الملف أننا وقفنا على حالات قرصنة بحرية أبطالها مغاربة، لم يكن يحركهم الجهاد البحري، بقدر ما كانوا يؤمنون أن من حقهم الحصول على ضرائب من السفن التي تعبر المياه المجاورة لمدنهم ومناطق نفوذهم، ولأن الأوربيين كانوا يرون في الأمر كله تحديا لهم وتصغيرا من شأن دولهم، فإنهم كانوا يمتنعون عن الأداء ليتحول الأمر إلى مواجهة، الغريب أنهم كانوا ينهزمون في أغلبها، وينتصر المغاربة.
السؤال هنا هو كيف كان هؤلاء «القراصنة» المغاربة قادرين على الإغارة على السفن الأوربية التي يشهد الجميع أنها كانت متقدمة من ناحية العتاد، بمعايير ذلك الوقت، رغم أنهم لم يكونوا يتوفرون إلا على سفن محلية الصنع.
هذا الأمر يعيدنا إلى الشهادة أعلاه. فهي لوحدها تقدم صورة تقريبية عن الكيفية التي كان بها أجدادنا يشنون غاراتهم على السفن الأوربية التجارية، وبدا واضحا من خلالها على الأقل أن الأمر كان يتعلق بغارات مفاجئة تحت جنح الليل، وهذا الأمر على الأقل مرة أخرى، يفسر لنا كيف أن أجدادنا بسفن محلية كانوا يهاجمون سفنا تجارية بضخامة إمكانيات ذلك الوقت.
أسطورة المجاهدين والباحثين عن الثروة
لم يكن من السهل أن تفصل بين المجاهدين وبين الباحثين عن الثروة، ببساطة لأن بين العالمين خيط رفيع جدا. وقائع التاريخ وحدها تكشف أن المغاربة كانوا يمارسون الغارات البحرية ويلجؤون إليها كأحد مداخيل العيش. وثبت في التاريخ المغربي الرسمي والأجنبي أيضا، أن هناك غارات جهادية منظمة قام بها المغرب لمواجهة المد الأوربي، وكان لها فضل في حماية الثغور المغربية من الاستعمار والتبعية للخارج. وكغيرها من حركات المقاومة البحرية، فقد عرفت طعم النجاح وذاقت مرارة الهزيمة أيضا، وهكذا كانت مدن ساحلية مغربية تئن تحت رحمة الاستعمار الأجنبي، خصوصا البرتغالي والإسباني.
لكن انهيار طرح «الجهاد» جاء بعد مرور سنوات طويلة على انتهاء السيطرة البرتغالية على السواحل المغربية في المدن التي تطل على المحيط الأطلسي، وهكذا أصبحنا أمام واقع تاريخي آخر يتعلق بنوع جديد من مراقبي البحر حتى لا نقول القراصنة. هؤلاء كانوا يرون في السواحل والطرق البحرية القريبة من سواحلهم، مصدرا للدخل، خصوصا وأن الإسبان والبرتغاليين وحتى الإنجليز كانوا يستغلونها دون أداء درهم واحد للمغرب!
هنا بالضبط، يجب أن نتحدث عن دور «المخزن» في ترك الساحة خالية أمام «القراصنة» لكي يمارسوا أنشطتهم بكامل الحرية، وأن يفاوض بهم، لعقد الاتفاقيات مع الأجانب، دون أن يكون هناك أي اتصال بين المخزن وبين هؤلاء «القراصنة».
في هذا الملف، سنحكي بالتفصيل عن علاقة أحد البحارة النافذين بالمخزن، وكيف كان أحد «المخازنية» ينوي الانتقام منه، لأنه كان يرفض أن يؤدي له نصيبا منتظما من عائدات القرصنة البحرية، ولم يحرك المخزن ساكنا حتى بعد أن علم أحد مستشاري السلطان بأن «المخازنية» يبتزون البحارة حتى يستفيدوا معهم من العائدات، علما أن المغرب كان قد مر وقتها بأزمات كبيرة، كانت فيها خزينة الدولة تحتاج إلى المداخيل لتسديد النفقات.
لهؤلاء البحريين قصص كثيرة، تستحق فعلا أن تُروى، خصوصا وأن التاريخ الأجنبي وحتى المغربي، لم ينصف أجدادنا القراصنة، رغم أنهم كانوا من الموهبة بقدر كبير، ولولاهم ربما لما استطاع المغرب أن يحظى بعدد هام من الاتفاقيات التي شكلت بداية علاقات جديدة، خصوصا مع الإنجليز.
أن يصل مجموعة من المقاتلين في البحر إلى درجة إزعاج راحة دولة كبيرة كإيرلندا، فهذا أمر ليس عاديا أبدا، لكن هذا ما وقع بالضبط.
ففي الفترة التي طرد فيها الإسبان الموريسكيين بدوافع دينية من أوربا، لم يجدوا في استقبالهم إلا إخوانهم في المغرب، وهكذا نظم الجميع بداية حياة جديدة لجيل من الموريسكيين، الذين كانوا حاقدين على كل ما هو أوربي. وهكذا كان الجيل الأول من الذين استوطنوا مدينة سلا، على موعد مع بدء غارات بحرية بمساعدة بحارة مغاربة، ووصل الأمر إلى حد إلحاق أضرار بالغة بسفن إنجليزية وإيرلندية، وتطلب الأمر إرسال بعثات خاصة إلى المغرب، لبحث طريقة لاحتواء الوضع.
لكن المفاجأة التي لم يكن ينتظرها الأوربيون، هي أن الدولة المغربية لم تكن لها أي علاقة بأولئك القراصنة أو المجاهدين.
في الفترات التي سبقت طرد الموريسكيين، كانت الدولة تتحمل مسؤوليتها في الغارات البحرية التي تلحقها سفن مغربية بأخرى أوربية، وكان وقتها المغرب يحصل على أسرى أوربيين، تم استعمالهم في البناء وتلقين المغاربة مبادئ الصناعات التي وصلوا إليها، وكان يتم إطلاق سراحهم مقابل إنهاء تلك الدروس، أو اعتناق الدين الإسلامي، فيما كان الرافضون لهذين الشرطين يتعرضون للسجن والأشغال الشاقة، ولم يتم إطلاق سراحهم إلا بعدما انقلبت الأمور ودخلت المنطقة في عهد جديد، تم فيه التأسيس لاتفاقيات اقتصادية وسياسية جديدة.
هذه أقدم الإشارات على وجود أسرى أوربيين من حروب السفن
يروي أحد الزوار غير العاديين للبلاط سنة 1905 أن بعض أصدقائه المغاربة، وربما الأجانب أيضا، حكوا له حكايات مثيرة عن القراصنة المغاربة، الذين كان قد سمع عنهم أشياء كثيرة، قبل زيارته غير المتوقعة إلى المغرب. ولكي يتأكد من صدق ما كان يُسمع في أوربا، بخصوص قوة البحارة المغاربة والخطر الذي كانوا يشكلونه على السفن الأوربية القادمة من آسيا عبر البحر الأبيض المتوسط، فقد كان عليه أن يسمع إلى الكثير من الروايات، التي قال بنفسه إنه لم يطالعها لا في كتب ولا في مراجع ولا حتى من مؤرخين مغاربة، وإنما من حكايات السهرات الخاصة وحفلات الشاي مع بعض من تعرف عليهم في المغرب. جاء في كلامه ما يلي، في كتاب «خلف الكواليس»: «قيل لي أيضا إن السلاطين كان لهم عبيد من النصارى الأوربيين. حصلوا عليهم كأسرى في حروب سابقة. لقد تم استعمالهم، لسوء حظهم، في بناء قصور في مكناس ومراكش وفاس. كان المشرفون على بناء القصور يعمدون إلى أخذ كل عبد أظهر تقاعسا أو عياء في مواصلة أشغال البناء ورميه في التراب والكلس، وتغطيته بهما ودكه إلى أن يختفي وسط الجدار الذي كان في طور البناء. في سنة 1721، أرسل «ستيوارت» كسفير من إنجلترا ليقوم بشراء العبيد الأوربيين ويعيدهم إلى أرضهم، لكنه وجد أغلبهم تحول إلى دين الإسلام حتى تنتهي معاناته الفظيعة في الأشغال الشاقة. لقد تم إنقاذهم وتعامل المغاربة معهم معاملة جيدة، على عكس أولئك الذين فضلوا البقاء على ديانتهم النصرانية. أما النساء فقد تم إلحاقهن بـ«الحريم».
في سنة 1817، ومع تعاظم قوة إنجلترا وسيطرتها على مضيق جبل طارق، خاف السلطان سليمان من ذلك الامتداد، وحد من عمليات القرصنة البحرية، ولم تعد سفنه تمارسها بالأشكال السابقة وإنما بسرية، ولم تنته إلا في 1856، عندما نجح «السير جون دريموند» في تحرير جميع العبيد والمسجونين».
في هذه الرواية كثير من التحيز، وما يفسر الأمر هو جنسية الكاتب، لأنه بريطاني، ومن العادي أن يدافع عن تاريخه الخاص أمام الواقع المغربي الذي سمع به. إذ لم يكن مقبولا بالنسبة إليه، خصوصا وأن الفرق الحضاري والاقتصادي بين المغرب وبريطانيا كان كبيرا جدا، أن يُذكر أن المغرب كان قد انتصر على بلاده عسكريا بواسطة السفن والمقاتلين الذين لم يكونوا بدون شك يملكون خبرة، مقارنة مع تلك التي كان يملكها البحارة الأجانب.
بعض المصادر الأجنبية كذّبت أن يكون المغرب قد توفر في فترات سابقة من تاريخه على جيش بحري يشرف على مراقبة الطرق، وفضلت أن ينعت أجدادنا بالمرتزقة والمشاغبين وقطاع الطرق، الذين كانوا يطمعون في محتويات السفن التجارية، والحقيقة التاريخية اقتضت أن تكون أكثر إنصافا على الأقل، خصوصا عند حديثها عن معارك دارت رحاها في البحر على بعد أمتار من السواحل المغربية، وتبين في ما بعد أن السفن المغربية كانت ترابط في البحر لحماية الثغور المغربية من تهديدات البرتغال والإسبان، خصوصا وأن المغرب كان قد سجل قبل أيام المولى الحسن، مجموعة من التهديدات البحرية في سواحل المحيط، وعاش سكان مدن مثل العرائش، الصويرة وآسفي تهديدات جدّية، كانت لتتفاقم لولا مراقبة المغرب لحدوده البحرية.
محاربو ميناء سلا الذين وصلت غاراتهم إلى إيرلندا
قبل أن نبدأ الحديث عن بحارة ميناء سلا الذين وصفهم مؤرخو إيرلندا بالقراصنة المخربين، لا بد أولا أن نضع الأمور في سياقها التاريخي. الوقائع هنا أقدم من المراحل التي تحدثنا عنها في السابق.
في السنة التي طُرد فيها الموريسكيون من إسبانيا، سنة 1610، كان هؤلاء قد استنجدوا بإخوانهم المسلمين في المغرب، وتمت استضافتهم ليستقروا بمدن الشمال كتطوان، وفي «الجانب الأيسر من نهر أبي رقراق» في سلا. ما يهمنا هنا، هو التلاقي الذي وقع بين سكان سلا وهؤلاء الموريسكيين، خصوصا وأن هؤلاء المطرودين من إسبانيا كانوا يحملون عداء كبيرا للمسيحيين والأوربيين بشكل عام، وفكروا، منذ وصولهم إلى المغرب مستنجدين، بالبحث عن فرصة للانتقام، ووجدوا ضالتهم في ميناء مدينة سلا بعد أن استطاعوا إقامة علاقات وطيدة ببعض المغاربة الذين كانوا يعتمدون في عيشهم على ما يجود به البحر عليهم.
ما وقع أن بعض هؤلاء الموريسكيين تحدثوا كثيرا عن قسوة الأوربيين الإسبان ووصفوهم بأنهم كانوا يحاربون الإسلام ويطردون المسلمين من الأندلس التي بناها أجدادهم، وهو الأمر الذي كان يثير غيرة البحارة السلاويين، والنتيجة كانت أن يضعوا سفنهم، التي كان أغلبها قد صمم لأغراض معيشية تتلخص في الصيد، لتصبح جاهزة للقتال والإغارة على السفن الأوربية التي كانت تعبر بمحاذاة السواحل المغربية في طريقها إلى أوربا. وهكذا فقد قاد هؤلاء الموريسكيون، بما أنهم كانوا يعرفون السواحل جيدا، غارات على إسبانيا وإنجلترا ووصلوا إلى إيرلندا أيضا!
بعض المصادر تقول إن في الأمر مبالغات كثيرة، لكننا عثرنا على إفادات أجنبية تقول عكس ذلك، ويشهد فيها أوربيون أنهم وقعوا في أسر بحارة مغاربة كانت ملامحهم أوربية، وفهموا في ما بعد أن الأمر يتعلق بالمطرودين من أوربا لأسباب دينية. بعض الإفادات في هذا الباب تقول إن الإغارات «السلاوية» على السفن الأوربية لم تكن تتم بوسائل عسكرية، ولا في الموانئ، وإنما في النقط البحرية المعزولة نسبيا، حيث كان هؤلاء السلاويون مدعومين بالموريسكيين، يقدمون على الاقتراب من السفن التي تبحر وحيدة في نقط بعيدة، ويباغتونها ليلا، لسجن جميع أفرادها وحيازة محتوياتها التي كانت في الغالب سلعا ومواد تجارية غالية، وهو الأمر الذي كان يشكل ضربة موجعة للأوربيين، خصوصا الإنجليز والإسبان.
وأحد هذه الأدلة هو ما أورده صاحب واحد من الكتب الأجنبية النادرة بعنوان «العلاقات المغربية الإنجليزية حتى 1900». الكتاب تضمن رسالة لأحد الأسرى الإنجليز، والمؤرخة في الرابع من نونبر 1625، يقول فيها ما معناه إنه وقع أسيرا في قبضة الموريسكيين، والمثير أنه أخبرهما في رسالة تكبد الكثير من العناء ليضمن إرسالها إلى أسرته مع أحد الفارّين، أنه يوجد في مدينة سلا، ووصفها بأنها أتعس مكان في العالم! وأخبر أسرته أنه مجبر يوميا على العمل مع حصان يدور في دائرة طيلة اليوم، حتى تستمر طاحونه للحبوب في الدوران، ويتعرض للعقاب الشديد كلما توقف هو أو الحصان. يقول أيضا في الرسالة نفسها إنه لم يتذوق اللحم أبدا، وإن غذاءه كان فقط يقتصر على الخبز والماء ولا شيء آخر. لماذا يفكر أجنبي في إرسال رسالة إلى أسرته؟ الجواب جاء في آخر الرسالة، إذ بذا واضحا أن الأسير كان يرغب في إثارة عواطف أسرته، وهو يسرد لهم صعوبة الظروف التي يعيش فيها، ويحثهم على تزويده بالمال، ليكون قادرا على دفع الفدية التي عليه ويسترد حريته.
بقي فقط أن نشير إلى أن الإنجليز والإيرلنديين، كانوا قد عرضوا هدنة مع الموريسكيين، وتم عقد لقاءات ومفاوضات موسعة لاحتواء الوضع، خصوصا وأن عنف الإغارات المغربية كان قد بلغ مداه، وكان الأوربيون يرغبون في تجنب المزيد من الخسائر التجارية. أما قضية الأسرى فقد تم طيها نهائيا، عندما وقع صلح بين السلطان المغربي وبين الإنجليز وحتى الإسبان، وكان الإفراج عن الأسرى الأوربيين في المدن الساحلية المغربية، عربونا على بداية المرحلة الجديدة.
قصة سفينة الإغارة التي قيل إنها ضلت طريقها وحطمها المغاربة
مع بداية القرن الماضي، ما بين سنوات 1902 و1909، عاش المغرب حادثا مثيرا في سواحل الدار البيضاء، حيث إن سفينة فرنسية كادت تدخل في مواجهة بالميناء مع المغاربة الذين رفضوا رسوها في المياه المغربية، ولم يغفروا لربانها أن يقتحم الميناء، رغم أنه اعتذر وأوضح أنه ضل الطريق. لهذه الواقعة وجهان، بحسب الروايات التاريخية المتوفرة. تقول بعض المصادر إن الأمر كان يتعلق بواقعة عرضية لم يكن هناك أي تخطيط فرنسي لها، فيما تقول بعض المصادر الأخرى إن الأمر كان يتعلق برحلة استكشافية سرية، كُشف أمرها بسرعة.
أما في الجانب المغربي، فقد وردت إشارة إليها، في المصدر نفسه الذي تحدثنا عنه أعلاه، أي في كتاب «خلف الكواليس». وجاء فيه على لسان أحد مواطني مدينة الصويرة ما يلي: «انتفضنا ضدهم وقتلنا أولئك الذين كانوا يأتون بالعملات الأوربية من وراء البحار. أتذكر عندما كنت معنا حين حاربنا سفينة الفرنسيين التي كانت تريد الرسو في الصويرة. لقد منعناهم، كانوا يقولون إنهم كانوا فقط يريدون التوغل في المحيط إلى أن وصلوا عندنا، لكننا لم نكن نصدق أكاذيبهم وأباطيلهم، حتى أن الرجال الذين نزلوا من السفينة تعرضوا للقتل بالبنادق. لقد كانوا يريدون استعمار أرضنا».
تبقى هذه القصة مجرد نقطة في بحر الوقائع التي كان البحر المغربي مسرحا لها. الواضح من الرواية أعلاه أن الأمر كان يتعلق فقط برفض مغربي، قاده الناس وليس السلطات المغربية التي تمثل سيادة الدولة. والحقيقة أن الواقعة جاءت متأخرة، ما دامت تتعلق بتوغل فرنسي، أو محاولة توغل في المغرب، بينما تبقى أقدم وأعتى حروب البحر، هي التي دارت رحاها بين المغرب وإسبانيا والبرتغال أيضا، منذ سنوات 1750 و1800 إلى آخر القرن. هذا لا يعني أبدا أنه لم تكن هناك حروب بحرية قبل هذا التاريخ، لكن التي وقعت في هذه المدة كانت تأخذ طابعا اقتصاديا أقوى من السابق.
وجاء في بعض المصادر الرسمية، وأولها أرشيف المؤرخ المغربي عبد الرحمن بن زيدان، إشارات إلى ماضي المغرب في «الجهاد البحري».. إذ لم تكن كلمة القرصنة إلا نعتا أوربيا للمقاتلين المغاربة. للتاريخ، فإن بعض المغاربة كانوا يركبون البحر دفاعا عن «الثغور»، بينما كانت فئة أخرى، وهي الأقل، تمارس القرصنة البحرية كنوع من مصادر الدخل لإبقاء القبيلة على قيد الحياة، وكان الأوربيون يرون في الأمر ابتزازا لهم، والحال أنه كان رغبة من سكان تلك المناطق، كباقي مناطق العالم، أن يحموا حدودهم البحرية ويستفيدوا منها ماديا، عبر فرض الضرائب على العابرين.
بالإضافة إلى هذا النوع من القرصنة، هناك نوع آخر كان الهدف منه القضاء على كل ما هو أجنبي، خصوصا وأن التاريخ أثبت أن أغلب السفن الأجنبية احتكت بالمغرب، أي أنه لم يكن يسبقه أي خلفية اقتصادية.
قصة المغاربة مع «القرصنة» أو «الجهاد البحري» متلاطمة الأمواج، وفيها أسطول من الحقائق والوقائع الغارقة التي طالها النسيان أيضا، بالإضافة إلى حطام كثير بقي شاهدا على ما وقع.
هذه حقيقة إمبراطورية صيادي الغنائم وهكذا واجههم «المخزن»
في المدن الساحلية التي توجد بها إلى اليوم أسوار وقلاع شاهدة على توتر الأمور في السواحل المغربية، وعدم أمان البحر والخوف من الغارات المعادية، كانت هناك قصص لأناس عاشوا حياتهم في السفن أكثر مما عاشوها في الطرقات، وبنوا لأنفسهم حياة على البر لا يزورونها إلا نادرا ولم يكتب لبعضهم أن يتمتعوا بها، لأنهم فقدوا حياتهم في البحر وهم يراكمون منها المزيد.
يصور التاريخ الأجنبي البحارة المغاربة على أنهم قراصنة مجرمون، فيما تاريخنا الرسمي، يصور أغلبهم على أنهم مجاهدون بحريون، كانوا يضحون بأنفسهم من أجل حماية الحدود البحرية المغربية من الغارات الأجنبية.
دعونا نقف في المنتصف، لأن هناك بعض الإشارات الأجنبية التي أغفلها الجانبان، وتحتاج في الحقيقة إلى كثير من التمحيص علنا نرى صورة مغايرة لمجاهدي البحر، تختلف ولو قليلا عن الصورة النمطية التي رسمت لهم، سواء عندنا، أو في الضفة الأخرى.
ما وقع أن «المخزن» كان فيه بعض الموظفين الذين كانوا يتابعون ما يقع من معارك بحرية، خصوصا في مدينة الصويرة والعرائش التي كان يحكمها البرتغال لفترة بسبب المعارك البحرية. لم يكن هؤلاء الموظفون ليغمضوا أعينهم، وهم يرون كيف أن البحارة المغاربة، خصوصا منهم الذين يجمعون بين الأقدمية واحترام البحارة الآخرين لهم، يحصلون على عائدات منتظمة من البحر، دون أن يخصصوا نصيبا منها لموظفي المخزن. حتى أن أحد «المخزنيين» كان قد تدبر مكيدة لأمين البحارة، وكاد أن يزج به في السجن، لولا أن الأخير علم بما يحاك ضده مبكرا، وبقي في البحر محميا وسط رجاله وأبنائه، ولم يعد إلى البر إلا بعد أشهر على آخر مرة كان فيها «المخازنية» يبحثون عنه لاعتقاله وسجنه بتهمة السرقة، وقد قيل له وقتها إن هناك فرضية كبيرة في أن يتعرض للتعذيب في مكان عام، حتى يكون عبرة للآخرين، ويوصل المخزن رسالته من خلاله، ليجبر البحارة الآخرين على دفع جزء من غنائمهم للدولة. كان هذا في الفترة التي توفي فيها المولى سليمان، وكان المخزن يعيد تعيين موظفيه وأعينه، مستعينا بعدد من الأعيان والموالين السابقين للوافد الجديد إلى السلطة.
تقول بعض الروايات التاريخية، في الباب نفسه دائما، إن التاريخ الشفهي لأغلب المدن البحرية المغربية، يعج بحكايات عن بعض الأسماء التي طالها النسيان، وكان أصحابها يضربون بيد من حديد وسط البحر ويغيرون على سفن ضخمة محملة بالسلع التي تأتي بها دول كبرى كبريطانيا من مستعمراتها في إفريقيا، وأصيبت بأضرار كبيرة بعد تلك الإغارات وكانت خسائر التجار الأجانب والدولة أيضا، فادحة.
تجدر الإشارة إلى أن الضغط الذي تعرض له هؤلاء البحارة من المخزن، لم يكن مصدره هو المفاوضات بين الدولة والإنجليز لاحتواء الأوضاع، وإنما كانت تحركه مطامع «المخازنية» للحصول على نصيبهم من الغنائم التي يحصل عليها البحارة. فالعلاقات المغربية الأجنبية، كانت دائما متذبذبة ولم تكن بالجودة التي تجعل المغرب يضغط على بحارته حتى لا يضايقوا السفن الأجنبية، بل كان المغرب مستفيدا دائما من هذه المضايقات التي تتعرض لها السفن الأجنبية، وبفضلها فاز بهدايا كثيرة، وجعلت وزن المغرب كبيرا في المفاوضات والبعثات الرسمية التي كانت تفد إلى المغرب، أو تخرج منه، بهذا الخصوص.