أتاي ولاّ الضو؟
يونس جنوحي
كان لافتا فعلا النظر إلى الكم الهائل من المُرشحين الراغبين في الهجرة «الفلاحية» نحو الضيعات الفرنسية، انطلاقا من ضيعات «هوارة» في الجنوب.
عدد الطلبات تجاوز أضعاف العدد الذي طلبته فرنسا مئات المرات، وظهر واضحا أن نظرية «الكل يريد أن يغادر المغرب بحرا وجوا» تبقى صحيحة جدا للأسف.
جُل المرشحين كانوا في عنفوان الشباب، وكان واضحا من نظراتهم أنهم فقدوا فعلا الأمل في أي مخطط لإنعاش وضعيتهم. إنهم المعنيون الأوائل ببطاقة «راميد»، هذا إن كانوا يتوجهون فعلا إلى المستشفيات العمومية، إذ إن العاملين في الضيعات لا وقت لهم إطلاقا للمرض. يستيقظون قبل أن يبدأ النهار وينتشرون بين الأشجار المثمرة ولا يعودون إلى منازلهم إلا في المساء ضدا في كل الاتفاقيات الدولية.
جل هؤلاء العاملين يأتون نازحين من قرى الأطلس التي ضربها الجفاف منذ سنوات، ولا يعرفون أي شيء لا عن رئيس الحكومة ولا عن المجلس الأعلى للحسابات، وكل ما يعرفونه عن «الحساب» لا يتعدى كناش «الكريدي» عند صاحب الدكان الذي يقتسمون معه بمرارة ما يكسبونه من دراهم بعد ساعات طويلة من العمل.
هناك، بطبيعة الحال، شريحة من هؤلاء العمال لجؤوا إلى العمل في الضيعات لمحاربة البطالة بعد أن حصلوا على دبلومات وإجازات جامعية من الكليات التي لا تبعد عن تلك الضيعات سوى بكيلومترات قليلة جدا.
استغل الكثيرون موضوع رغبة هؤلاء المياومين البسطاء في الهجرة إلى الضيعات الفرنسية لتحسين وضعيتهم المادية ووضعية أسرهم، لتبادل النكات والسخرية من عفويتهم في الكلام والصورة التي يرسمونها لفرنسا في مخيلتهم.
العدد الهائل للراغبين في الهجرة الذين اصطفوا بالآلاف أمام مكتب وضع الملفات منذ الثانية صباحا تقريبا، يكشف إلى أي حد لم يعد للمغاربة أي أمل في الحكومة ولا وعود إصلاح الأوضاع الاجتماعية لمغاربة الهامش والمشتغلين في القطاعات غير المهيكلة. إذا كان المهندسون والأطباء والمثقفون وحتى الفنانون المعروفون يسعون جاهدين إلى الاستقرار بكندا والحصول على الإقامة الدائمة في أمريكا، فعلى ماذا يمكن أن نلوم عاملا بسيطا أجرته اليومية لا تكفي حتى لتسديد فاتورة الكهرباء وتعبئة قنينة الغاز؟
إن مشكلة سكان الهامش في المغرب أكبر من أن يفهمها مسؤول حكومي لا يعرف النزول إلى الميدان إلا في الحملات الانتخابية التي لم يحدث نهائيا في تاريخ البلاد منذ 1962 أن نُظمت في فصل الشتاء. ببساطة لأن المُرشح يمكن أن يُحاكم شعبيا من طرف السكان إن هو زارهم في فصل الشتاء حيث يُعزل الناس وسط الثلوج والبرد والسيول الجارفة وانهيار القناطر وفيضان الوديان. كل مواسم الانتخابات تكون في الربيع، عندما يكون مزاج القرويين رائقا.
ولكي يفهم هؤلاء المسؤولون طبيعة الإنسان المغربي في المناطق المعزولة حيث الكل يحلم بالهجرة إلى فرنسا على طريقة «موغا» للعمل في المناجم أو معامل السيارات، لا بأس أن يبحثوا عن فيلم وثائقي أنتج قبل ثماني سنوات، بعنوان «Tea or Electricity ?». أي «الشاي أم الكهرباء؟». ولكي تفهم هذا العنوان، عزيزي المُرشح أو الوزير، لا بد أن تكون من أبناء الطبقات الشعبية التي نشأت في الجنوب. إذ إن عادة سكان الأطلس القدماء عندما تم ربط القرى لأول مرة بالكهرباء، كانت أن يسألوا ضيوفهم الجدد ما إن كانوا يرغبون في شرب الشاي، كما هي عادة الضيافة القديمة، أم أن يستمتعوا بإشعال المصابيح الكهربائية ليلا بعد ربط القرى بالتيار.
الفيلم صُور على مدى ثلاث سنوات، ورصد كيف تتغير حياة سكان قرية نواحي الأطلس، تعيش عزلة تامة وحقيقية، بعد ربطها بالتيار الكهربائي. جزء من الفيلم يصور الحياة العصيبة التي يعيشها هؤلاء الناس بسبب الجفاف والعزلة والظلام، ثم كيف تغيرت حياتهم بسبب المصابيح الكهربائية وأجهزة التلفاز.
هؤلاء الذين يرغبون اليوم في الهجرة إلى فرنسا للعمل في الحقول، لا يجب أن يسخر منهم أحد. يجب أن تسخروا من أنفسكم ما دمنا في بلد يفضل أبناؤه الهجرة كل يوم، نحو المجهول، بدل انتظار وعود الُمنتخبين الذين لا يزورون القرى المنسية إلا في الحملات الانتخابية ليشربوا الشاي، ثم يرحلون قبل حلول الظلام، حتى لا يسألهم أحد ما إن كانوا يرغبون في شرب الشاي، أم الاستمتاع بمصباح يتيم أسفل سقف القصب.