شوف تشوف

دين و فكر

أبي المتهم بشرب ماء المخزن

أنا الوحيد الذي سمعت ما دار من حوار بين «الدركي» وأبي، فأسرعت إلى داخل «الخيمة» أخبر أمي بالمصيبة التي ستلم بنا.. لم تنبس ببنت شفة… توكأت على الحائط، كأنها تستغيث به أن يقيها من السقوط..
رجعت مرة أخرى مسرعا إلى ناحية «الجيب» لمتابعة بقية الحوار بين أبي و«الدركي».. أدركت من هذا الأخير الجملة التالية:
ـ خذ ما تحتاجه من ملابس وأغطية.. نحن في عجلة من أمرنا.. هي أسرع..
نهر «الجدارمي» أبي.. ورمقني بنظرات ثاقبة، من تحت قبعته المخيفة، حتى خيل إلي أنه سيلقي القبض علي أنا أيضا..
ولَّى أبي مدبرا إلى غرفة النوم (هي في الحقيقة غرفة نوم وصالون في الوقت نفسه لاستقبال الضيوف.. كنا لا نملك غرفة للنوم في ذلك الوقت.. ولم نملكها في يوم من الأيام..)، ولم يلتفت نهائيا إلى جهة الوالدة.. لبس جلابيته، وتأبط ملحفة صغيرة، ثم بعد ذلك بادرها بالكلام:
ـ اعتني بالأطفال كثيرا.. سيرعاكم الله.. لا تهتمي لأمري، فأنا لم أفعل شيئا.. ولم أظلم أحدا.. والله ينصر المظلومين دائما..
أتم أبي كلامه بصعوبة بالغة، وتوجه نحو «الجيب» (دفعه الدركي إلى مقعدها الخلفي دون لطفٍ وضرب بابها بقوة حتى قفز أبي من مكانه مرعوبا..)، أما الوالدة، فقد خانتها صلابتها، فتعانقت مع أختي «زينب» واستسلما للبكاء والعويل.. في هذه المرة أيضا ضربت صدرها بقوة خلتُ أنها ستسقط من هول الصدمة.. ثم لطمت خدَّها بعنف زائد.. دائما الصدر والوجه هما اللذان يتحملان الصدمات واللكمات في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة (وفي اليوم الآخر يسحب الظالمون على وجوههم)، أما أخي «محمد»، فقد كان في «الزاوية».. لم يرجع بعد من عند الفقيه «بوشتى».. فهو منشغل دائما بحفظ القرآن.. لقد أصبح «فقيها»..
تعرض والدي للتعذيب على أيدي الدرك.. اعترف تحت وطأة السوط بأنه أحدث الثقب في أنبوب الماء.. أمضى على محضر المتابعة دون أن يقرأه أو أن يقرؤوه عليه.. عاش أبي أياما عصيبة، عندما أحاله رجال الدرك على وكيل الملك، وأنكر أمامه ما جاء في محضر الزور، أعاده مرة ثانية إلى الدركيين من أجل استكمال البحث، فمارسوا عليه كل ألوان التعذيب..
استسلم الوالد في النهاية للظلم ورضي به، وحكى لوكيل الملك كل الوقائع بتفصيل ممل.. كيف ثقب أنبوب الماء، والأدوات التي استعملها في الحفر.. لقد اختلق «المشتبه فيه» أحداثا ووقائع لم يفعلها ليتخلص من الضغط الذي مورس عليه من قبل الدرك.. وليضع حدّا للتعذيب الذي لاقاه جرَّاء هذه المحنة.. فاختلطت الأوراق وأصبح الباطل حقا.. وتحول الكذب إلى حقيقة.. والبريء إلى مذنب.. وكل ذلك حصل في أقبية الدرك المظلمة..
إن «المخزن» كان يملك في تلك الحقبة كل الوسائل المادية والبشرية والقانونية ليعتقل من شاء.. ويعفو عمن شاء..
عندما استكمل وكيل الملك التحقيق مع أبي أحاله على المحاكمة العلنية.. حفظت عن ظهر قلب ما كان يحكيه لنا عن استجواب القاضي له.. وبكثرة ما سمعنا هذه القصة أصبحنا نردد فصولها المملة كأننا الأبطال الحقيقيون لها.. كان يقص أبي القصص في كل مناسبة وغيرها، سواء في الفرح أو المأتم، فهو من شدة الظلم الذي لحق به لا يسأم من ترديدها، إلى درجة أن الناس أنفوا من سماعها وبدؤوا يتهربون من الحديث إليه أو الجلوس معه.. كأنها حكاية «علي وعلقمة» التي يرويها لنا كل مساء قبل النوم.. ويتركنا في ليل طويل نحلم بـ«سيدنا علي» الذي قسم خصمه إلى نصفين..
تمنيت لو كنت مثل «سيدنا علي»، فأواجه «الدركي» أو «وكيل الملك».. كنت أطيل النظر في صورته المعلقة على جدران غرفتنا الحجرية، يحمل فيها سيفه القاطع، كأنه ينتظر ملحمة قادمة.. أحببت «عليا» من خلال «الحكايات» التي كان يرويها لنا والدي طيلة سنوات عديدة.. وأحببت «آدم» بسبب «الأساطير» التي حكتها لنا عنه والدتي.. وهي تختلف تماما عن القصص التي وردت في القرآن.. وفي مقابل ذلك كرهت «الدركي» الذي عذَّب والدي.. و«الوزير» الذي سرق الماء ولم يعتقله «وكيل الملك».. وهما قصتان عشتهما ولم أكن في حاجة إلى من يروي لي تفاصيلهما..
شعرت أحيانا أن أبي يحاول أن يتقمص شخصية «البطل علي» وهو يحاور القاضي.. كان يعيد تمثيل ما جرى داخل جلسة المحكمة.. يستعير شخصية القاضي أحيانا.. ويلبس شخصية «المظلوم» أحيانا أخرى.. «نقَّح» و«عدَّل» من وقائع الأحداث ـ ما شاء ـ حتى أصبحت حكاية تستحق أن تُروى.. تأثر بدوره بـ«سيدنا علي»، وبدا عليه فجأة نزوع واضح إلى البطولة والشهامة.. وهو في الحقيقة كان مجرد رجل بسيط عانى من ظلم «المخزن»، ويريد بعد جور لحق به أن يرفع من معنوياته التي انكسرت في مخفر الشرطة وعند وكيل الملك وأثناء محاكمة القاضي له:
سين: ما اسمك وسنك واسم والدتك؟
جيم: اسمي فلان بن فلانة وعمري 45 سنة..
سين: أنت متهم بالترامي على ملك الدولة وإحداث أضرار بها حسب الفصول القانونية التالية…؟
جيم: لم أفهم سيدي القاضي هذا الكلام؟
سين: اسمع أيها الرجل، لا تحاول أن تمزح معي، ولا تكرر هذا مرة أخرى.. بالعربية «تعرابت»، «أنت حفرت في السقاية وسرقت الماء من الدولة»..
جيم: سيدي القاضي، لم أفعل ذلك.. وما ينبغي لي أن أقدم على مثل هذا العمل، وكنت أحسب أن الماء ماء الله.. وأن العين انبثقت بإرادة من القدير..
شرد ذهن القاضي لحظة قصيرة، وكأنه لم يتوقع أبدا مثل هذا الجواب.. ثم صرخ في وجه أبي:
ـ لقد اعترفت بأقوالك أمام الدرك.. وأمام وكيل الملك.. وتحاول الآن أمامي أن تنكر التهم الموجهة إليك؟
جيم: أنا لم أرتكب جرما ولا حاولت ذلك.. لقد ظننت أن الله استجاب لدعائنا، ففاضت عين جارية بجانبنا، فشربنا الماء مع الشاربين.. وسقينا منها كما فعل غيرنا..
سين: هل تحسب نفسك في زمن سيدنا «موسى» عندما ضرب الأرض بالعصا فانبجست منها اثنتا عشرة عينا.. (ضحك القاضي والتفت يمينا ويسارا وتبادل ابتسامة ماكرة مع القاضيين الجالسين بجنبه..)
تعالت قهقهات من حضر المحاكمة.. ضحك المحامون ووكيل الملك.. وبدت نواجذ «الشاوش» (موظف بالمحكمة) من كثرة الضحك على أبي.. شعر هذا الأخير بغصة في حلقه.. جفت حنجرته، ولم يقوَ على بلع ريقه، وخارت قواه، فجال ببصره داخل المحكمة يبحث عن كرسي ليحمل عليه جسما أصبح ثقيلا.. لكن صراخ القاضي ومطرقته الخشبية أعادتا إليه تماسكه من جديد..
ـ سكوت.. اسمع يا رجل.. إذا تعاونت معي وأجبت عن كل أسئلتي دون لف أو دوران، فسأخفف عنك الحكم، وقد أحكم لك بالبراءة..
قل لي: ما هي الآلة التي استعملتها في ثقب أنبوب الماء؟
جيم: سعادة القاضي.. الماء يجري في هذا الأنبوب بجانبنا سنوات عديدة ولم نلتفت إليه.. لأن ماء الله كان يهطل علينا من السماء ولم ننتبه إلى أن للدولة ماءها أيضا.. في هذا العام حُبِس عنا المطر، وماتت بهائمنا، وعطش صغارنا، واتسَّخَت ملابسنا.. فاعتقدت أن الله رزقنا هذه المرة الماء من تحتنا عوض أن ينزله من فوقنا..
استبد الغضب مرة أخرى بالقاضي، لكنه تمالك أعصابه، وأعاد السؤال بصيغة أخرى:
ـ أنت تعترف أنك شربت من ماء «المخزن»؟
جيم: نعم سيدي، شربت من ماء «المخزن».. ولم أظن أن في الأمر إشكالا ما..
لم يخطر ببال والدي يوما أن للدولة أيضا ماءها.. كان بديهيا عنده أن الله هو الذي ينشئ السحاب الثقال.. وينزل الأمطار.. ويسقي الآبار.. ويحيي الأرض بعد موتها.. فلم ينتبه إلى هذه النعمة الجارية إلا عند زوالها.. في هذه اللحظة بالذات تذكر الوالد «جنة الوزير»، الذي يسقي أرضه من ماء المخزن.. ويا ليته ما تذكر ذلك.. توجه المسكين إلى القاضي مستدركا.. تبدَّت على محياه ملامح طفولية بريئة مثل الصغير تماما الذي يكتشف شيئا جديدا:
ـ سيدي القاضي.. إن سعادة الوزير يشرب هو أيضا من ماء المخزن.. ويسقي مزرعته منه.. وله بهائم كثيرة تشرب من عين لا تنفد..
ارتسمت معالم الغضب على وجه القاضي، وسأل أبي بعد أن قطب جبينه:
ـ عن أي وزير تتحدث يا رجل.. يبدو أنك تستهزئ بنا.. أو أنك تحتاج إلى من يربيك.. (بدا ارتباك واضح على هيأة الحكم، فطوى ملفا أصفر أمامه.. ثم وقف في مكانه كأنه يبحث بعينيه عن شخص ما وسط الحضور…).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى