شوف تشوف

الرأي

آخر انتصارات بوتين

أرنست خوري

فصول عديدة تقلبت في روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. تغيرت عادات ديكتاتورية كثيرة وتجددت الدماء في مفاصل تقاليد صارت نمطا في الحكم اسمه «البوتينية». خليط من التسلط والنزعة القومية وإتاحة شيء من حرية التعبير بسقف منخفض لا يصل إلى مستوى التغيير وتداول السلطة، ونيوليبرالية بأعنف نسخها، وفئة حاكمة فسادها يقاس بالأرقام الفلكية، جميع أفرادها لصيقون برئيس حفظ الدرس من دور عنصر المخابرات الذي كانه أيام الـ«كي جي بي»: استبدِل ثوبك القديم عندما ينبئك حدسك الأمني بتغير الطقس، لكن حافظ على ما يدغدغ الأحلام التوسعية عند نواة القوميين الروس، وعلى ما يبحث عنه آخرون فيك كقائد صاحب كاريزما يذكرهم بأباطرة السوفيات. اكتب بيمناك أنك لا تهتم بالمناصب، وبيسراك عدل الدستور كلما انتهت ولاية رئاسية لتمديدها «استثنائيا»، ولا تنس منح نفسك حصانة أبدية. «التفشيخ» ضروري، وعرض العضلات (حرفيا لا مجازيا) وركوب الخيل عاري الصدر، وظهورك محاطا بالحسناوات، كلها من عدة الشغل الأساسية لكي تظهر فداحة المقارنة بينك وبين العجزة الذين أتوا بك وانقلبت عليهم، مثل بوريس يلتسن. أنت لم تعد شابا (68 عاما)، لكن عليك أن تدعي استمرار شبابك لتكريس الاستثناء الروسي عند مريديك. وحين يتضخم حجم طبقة وسطى شابة ومتحررة فتمد يدها للمشاركة في السلطة، أحضر بطاركة الكنيسة لتحدث العالم عن المؤمن الورع الذي تكونه، وعن خطر التفلت الأخلاقي الذي يشكله هؤلاء الشباب والشابات على عاصمة الأرثوذكسية في العالم.
من بين هؤلاء الشباب، ظهر منذ 17 عاما محام وصحافي، اسمه ألكسي نافالني (44 عاما)، أكثر ما هو مزعج فيه هو أنه يعمل في وضح النهار، ويعلن ما يضمر، حتى أنه يرميه على الإنترنت لتسمعه السلطة وتشاهده هي قبل أنصاره. لو ظل مجرد رئيس حزب معارض اسمه «حزب روسيا المستقبل»، لكانت قصته سهلة. لكن نافالني خطير لأنه أسس جمعية ضد الفساد شديدة الفعالية، تفضح بنسق الصحافة الاستقصائية، وقد كشفت بالفعل مجموعة من المصائب المرتبطة ببوتين والبوتينية ورموزها من عيار ثروات ديمتري ميدفيدف وفلاديمير بوتين نفسه. آخر ضرباته فضيحة «قصر لبوتين» (اسم التحقيق) بتكلفة مليار و300 مليون دولار يقول الوثائقي إن بوتين يملكه على البحر الأسود، بمساحة 4 أضعاف كيلومترات إمارة موناكو. 85 مليونا شاهدوا التحقيق منذ عرضه قبل أسبوعين، وصدقوا ما جاء فيه. نافالني تصفه «وول ستريت جورنال» بأنه أكثر شخص يخشاه فلاديمير بوتين، الذي لم يذكر اسمه يوما في العلن. ظل الرجل يُعتقل بوتيرة شبه أسبوعية أو شهرية، من دون أن يصمت. شعبية المعارض الشاب تكبر، وأتباعه يزدادون صلابة وجرأة. يُمنع الرجل من الترشح للرئاسة عام 2017 لسبب وجيه، سجله غير نظيف. نسخة روسية لـ«إثارة الوهن في نفسية الأمة»، كما تسردها الرواية البعثية. أيضا المنع لا ينفع، لا بل اخترع الرجل طرقا انتخابية ليضرب فيها كل استحقاقات الانتخابات التي جرت في روسيا على الصعيدين الوطني والمحلي منذ سنوات، ويوقع خسائر جدية في صفوف البوتينية وحزبها ورموزها في أكثر المدن ولاء للسلطة، من فلاديفوستوك شرقا إلى سان بطرسبورغ غربا مرورا بموسكو خصوصا.
ينجو نافالني من محاولة تسميم بغاز نوفيتشوك، أشهر أسلحة القتل في عصر البوتينية وقبلها السوفياتية. يُنصح بعدم العودة إلى روسيا من ألمانيا. يعود، يُعتقل في المطار، يحتشد أنصاره في 170 مدينة وبلدة وقرية، إحداها في سيبيريا في درجة حرارة وصلت إلى 52 تحت الصفر. يعتقل 3300 شخص في غضون دقائق. تُقطع شبكة الإنترنت. لكن دائما لا فائدة. يقرر المعارضون العودة إلى الشارع، الأحد الماضي. يضطر بوتين إلى نفي امتلاكه القصر، ثم يستل سيفه المفضل، أمريكا. لا بد أن تكون أمريكا خلف حركة نافالني. كشفناها، يعني أننا انتصرنا، قال في سره.
ومثلما نعلم عن هذه العائلة من الأنظمة التي نعرف أبناء وبنات كثرا لها في بلادنا، فإنها عندما تبدأ في إعلان انتصاراتها، يكون قد آن أوان خسارتها الكبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى