شوف تشوف

الرئيسيةخاص

13 سنة مرت على فاجعة 16 ماي 2003

كانت ليلة الجمعة 16 من شهر ماي 2003، في مدينة الدار البيضاء دافئة حد الاعتقاد بدخول طوعي لفصل الصيف قبل الأوان، لكن ليل المدينة كان على موعد مع رائحة الموت والدم والبارود، بعدما قرر مجموعة من الانتحاريين المتطرفين وأغلبهم ينحدرون من حي سيدي مومن، تحويل وسط العاصمة الاقتصادية إلى فصل من فصول أفلام الرعب والدمار، بعدما داهموا فندق «فرح» ومطعم «دار إسبانيا»، ومطعم إيطالي يحمل إسم «بوزيتانو» ومركز اجتماعي يهودي، ودائرة الرابطة الإسرائيلية غير بعيد عن ساحة «فيردان» ومقبرة يهودية قديمة بحي «بوطويل»، بينما فجر انتحاري نفسه أمام قنصلية بلجيكا.
في كل سنة يلتئم الضحايا وذووهم يبكون بحرقة جماعية أبناءهم وأزواجهم وآباءهم وأمهاتهم وأقاربهم، يشعلون الشموع أمام مسرح الجريمة ويقرأون الفاتحة أمام النصب التذكاري، ويلعنون في قرارة أنفسهم التطرف والمتطرفين، ويعودون إلى بيوتهم وفي قلبوهم غصة. ولأن المناسبة شرط فإن «الأخبار» تستحضر من خلال الملف الأسبوعي الفاجعة، وتعيد ترتيب آخر اللحظات في حياة بعض الضحايا قبل أن يعودوا إلى بيوتهم منهكين وكأنهم ناجون للتو من المجزرة.
كانت خمسة انفجارات متفرقة كافية لإعلان الدار البيضاء مدينة منكوبة، خاصة بعد أن فاق عدد الموتى ‏41‏ شخصا بينهم ‏10‏ انتحاريين وإصابة نحو مائة آخرين وفقا لما أعلنته مديرية الأمن في مدينة الدار البيضاء‏، وهو الرقم الذي ظل في تصاعد كما تصاعد الهاجس الأمني الذي نام على وسادة الاستخفاف رغم الإشارات القوية التي خلفها أول عمل ببصمة إرهابية تحت مسمى «تفجيرات فندق أسني».
مرت الآن 13 سنة على الفاجعة التي لازالت آثارها بادية على نفوس الضحايا وأفراد أسرهم، وبين ماي 2003 واليوم مرت تحت الجسر مياه النكبات الآسنة، وتحول التطرف إلى مصنع للانتحاريين الذين جعلوا من مأساة 16 ماي مجرد اختبار تجريبي لقدراتهم الإرهابية وامتحان ميداني لنواياهم الدموية.

سعاد.. فقدت زوجها وابنها وأصبحت نصيرة الضحايا

فقدت سعاد البكدوري زوجها وابنها في الأحداث الأليمة التي هزت مدينة الدار البيضاء في 16 ماي 2003، وتحديدا في دار إسبانيا، حين كان يتناول وجبة عشاء رفقة والده وبعض أصدقاء الأسرة.
تقول سعاد والدة الطيب بنبرة حزينة إن القدر أصر على أن تكون نهايته في فضاء ظل يتردد عليه منذ طفولته، «لقد تلقى دعوة لقضاء لحظات مع أحد أعز أصدقائه لكنه رافق صديقا آخر إلى دار إسبانيا حيث كان والده هناك، علما أن الأب وعد ابنه بتخصيص اليوم الموالي لعشاء خاص رأسا لرأس»، هناك زهقت روحه في لحظة غدر طائشة بمطعم دار إسبانيا، لقد كان بإمكانه الانفلات من الموت فالتفجير الأول لم يقتله بل ظل حيا يرزق وركض مسرعا نحو المائدة التي كان يجلس فيها والده الذي مات قبله في أول انفجار، لكن دوي الانفجار الثاني جعل الطيب ينهار تحت الأنقاض.
تضيف سعاد وهي تستحضر آخر اللحظات في مسلسل الرعب، «لم أكن أظن أنني سأودع زوجي وابني في باحة المطار قبل فاجعة يوم الجمعة الأسود. لقد سافرت أنا وابنتي إلى فرنسا، وحين عدت تبين أن الإرهاب قتل الذكور في أسرتي وتركني أنا وابنتي. لقد مات زوجي في الحال ومات ابني بعد أسبوع، هناك في مستشفى ابن رشد أهمل بشكل مفضوح وهو وبقية الضحايا، لم يشرع الطاقم الطبي في تفقد حالة ابني إلا بعد مرور ساعات على وصوله، بعد أسبوع لفظ آخر أنفاسه».
عاشت أم وزوجة فقيدي دار إسبانيا حالة من الإحباط، قررت في لحظة الاستقالة من الحلم، تغير مسارها وأصبحت شاردة لا تدري ما تفعل وهي تدفن زوجها وتعود لتتسلم جثمان ابنها، «فقدت قدرتي على العمل، لكن في لحظة من اللحظات استجمعت قواي ووقفت من جديد من أجل مواكبة ابنتي، ومن أجل الضحايا الآخرين وأبنائهم الذين اكتووا بنار الإرهاب، بعد أن أصبحت رئيسة لجمعية ضحايا أحداث 16 ماي الأليمة، حيث توسعت مع مرور الأيام مجالات انشغالاتها ولم يعد شبح 16 ماي هو هاجسها بعد أن لامس الدم كل الشهور وكل السنوات.
انكبت سعاد على جمع أشلاء خواطرها فأنجزت كتابا يؤرخ للفاجعة، اختارت له اسم «قبل الأوان»، تضمن حكايات ومصادفات تمنع القارئ من اعتقال صبيب الدمع الجارف، في هذا البوح الذي تقدمه شاهدة على عصر الدم، تتحدث أستاذة قادمة من شمال المملكة إلى الدار البيضاء لتربي النشء وتعلم أبناء الأحياء الهامشية انطلاقا من سيدي البرنوصي إلى مناطق أخرى، عن الفاجعة، عن استعداد ابنها ووالده لقضاء أمسية ساهرة، مقابل استعداد الانتحاريين للتوجه إلى وسط الدار البيضاء لزرع الغم الأبدي وسرقة لحظة فرح بين والد وابنه، اختارا دار إسبانيا لتناول العشاء قبل أن يكون «لفريت» آخر وجبة تدخل بطن الطيب قبل رحيله.

أسرة بكار ما زالت تنتظر عائدات مباراة تأبينية

في الساعات الأخيرة من حياة عبد اللطيف بكار، قرر اللاعب السابق للرجاء البيضاوي مصالحة الذات والأقرباء، فقد عقد جلسة صلح مع شقيقه الأكبر سي محمد، المهاجر بالديار الفرنسية، بمقهى قرب حديقة مردوخ بوسط الدار البيضاء، ودعا عسيلة والد زكرياء عبوب إلى جلسة مصالحة من أجل تذويب خلاف عائلي، كما لبى دعوة المحامي العلوي وابنه إلى تناول وجبة عشاء من أجل فض خلافات عالقة في دار إسبانيا.
وقبل أن يغادر بيته، قرر حلاقة ذقنه ووضع معطر على عنقه، وارتداء ملابس خارجة للتو من محل تحديد في حي حكم، لاحظت ابنته الصغرى وكان عمرها لا يتجاوز 12 ربيعا، إصرار والدها على التأنق فتراقصت أمام عينيها سهرة آتية لا ريب فيها.
حين كان عبد اللطيف بكار يزحف نحو قدره النهائي، التقى بشقيقه الأكبر الذي يعيش في المهجر، واتفقا على تذويب خلافات قديمة بحضور إدريس ماهر والصحافي محمد أبو السهل وعبد العليم بينيني، قبل أن يقابل عسيلة والد اللاعب الرجاوي السابق زكريا عبوب وبعض أصدقائه الموظفين بعمالة الفداء درب السلطان، استعدادا للتوجه إلى موقع الفاجعة بدار إسبانيا.
يقول ماهر إن بكار كان في قمة أناقته وكأنه في يوم زفاف، وكان يصر على تذويب خلافاته مع محيطه، بل إنه جالس شقيقه لدقائق من أجل إنهاء مخلفات نزاع قديم، وقبل أن يغادر المقهى عانق بالأحضان الصحافي أبو السهل وشكره على المقال الذي كتبه حول وفاة زميله لاعب الرجاء الأسبق عبد الرزاق الدغاي. بدا بكار مستعجلا وكأنه على موعد مع القدر، كان يتحدث في هاتفه المحمول وكأنه يرتب مواعيد أخرى مع أشخاص كانوا في انتظاره في مكان آخر.
مات بكار من شدة الانفجار، حيث أكد التشريح الأولي للجثة أن الإصابة كانت على مستوى طبلة الأذن، ولم يتمزق جسد الفقيد أو يتحول إلى أشلاء كما حصل للعديد من الضحايا الذين داهمهم الموت على حين غرة، وارتبطت مجموعة من الغرائب بوفاة عبد اللطيف بكار، فقد انتهى مقامه في الحياة الدنيا في الذكرى الخمسينية لميلاده، مات بعد أن خصص يوم الجمعة بالكامل لتوديع كل من التقاه وكأنه تلقى إشعارا بالرحيل، بل إنه ظل يتحدث بكثير من الأسى عن رفيق عمره اللاعب السابق للرجاء عبد الرزاق الدغاي، الذي مات قبل شهرين وترك فراغا رهيبا في نفسه ووجدانه.
ترك الراحل أسرة صغيرة تتكون من ثلاثة أفراد، الزوجة مريم التي رافقته في الرخاء والمحن وابنته فاطمة الزهراء وابنه زكريا، دون أن يمكنها من سكن قار، مع أنه احترف في أعلى مستوى بالعربية السعودية.
ومن المفارقات التي ارتبطت بمقتل بكار، أن نادي الوداد البيضاوي قرر تخصيص 10 في المائة من مداخيل ديربي سنة 2003 لفائدة عائلتي بكار والمهدي، وهما من لاعبي الوداد وماتا في فترة متقاربة. اتصلت إدارة الوداد بالحاج قيس وطالبته بنسخة من البطاقة الوطنية لمريم، أرملة بكار، من أجل تسجيل اسمها على شيك الدعم، لكن مرت على وفاة عبد اللطيف ست سنوات ولازالت أسرة الراحل تنتظر نصيبها من المبادرة الإنسانية التي ضاعت في زحمة الانشغال بالنتائج الآنية، رغم مرور 13 سنة على الحادث.

منديب.. الدكالي الذي مات وهو يفاخر بالدفاع الجديدي

من ولع الفراق على شقيقها عبد الكريم منديب، ندرت الكاتبة خطيبة منديب حياتها للعمل الجمعوي وتموقعت في خندق مكافحة كل أشكال الإرهاب، في مدينة الجديدة مسقط قلب ورأس الفقيد عبد الكريم، خصصت رابطة كاتبات المغرب، جزءا من انشغالاتها لقضايا التطرف الديني ونشر فكر وقيم التعايش والسلام، سيما بعد أن أسندت رئاستها إلى خطيبة، التي أعادت الروح إلى هذا الكيان الجمعوي النسائي.
ظلت روح عبد الكريم جاثمة على حركات وسكنات هذه الجمعية، خاصة وأن ما تعرض له عبد الكريم يمكن في أي لحظة أن يصيب أبرياء آخرين. فقد كانت الدقائق الأخيرة من حياة رجل الأعمال الدكالي المتيم بعشق الدفاع الحسني الجديدي، غريبة الأطوار سريعة الخطو نحو النهاية التراجيدية، لقد كان ملتزما بعشاء عمل مع شريكه الأجنبي، اقترح هذا الأخير التوجه إلى فندق آخر في ضواحي الجديدة لكن عبد الكريم أعلن الفيتو وأصر على تناول العشاء في دار إسبانيا. فجأة توقف كل شيء بعد أن انفجر انتحاري في لحظة التوصل إلى اتفاق ثنائي حول مشروع يوفر الشغل لنحو 300 شاب.
لم يتوقف الانتحاري إلا حين بلغ عمق قاعة الأكل حيث توجد مائدة منديب وشريكه، وإلى جانبه أسر بكاملها، دمروا حدود التنوع الديني والجغرافي والتاريخي، و»جلسوا في فرح وسعادة حول موائده، يتبادلون أطراف الحديث، ويتسامرون وهم يتذوقون ما يعده طباخوه المهرة من الطيبات، عندما باغتتهم التفجيرات الغادرة. في ذلك المطعم وحده قتل في تلك الليلة 15 شخصا على الفور. لكن رغم مرور 13 سنة على الفاجعة لازالت أسرة منديب تخلد الحادث وتنشر في حاضرة دكالة ثقافة التعايش والسلام بين الأفراد، على غرار ما دأبت عليه أرملة الخمال.
ينحدر عبد الكريم من عائلة منديب الرياضية والدينية، ففي بيت العائلة بدرب الصفا تأسس فريق الدفاع الحسني الجديدي، وشقيقه ترأس الفريق لسنوات كما ساهم الراحل في هيكلة ودعم بعض فروع النادي، وكانت جلساته في دار إسبانيا لا تخلو من حديث عن الفريق الدكالي، وقال الناجون إنه مات وهو يدافع عن تاريخ الدفاع الجديدي وسط مد رجاوي وودادي.
ليست الكرة هي الهم الوحيد للفقيد، فقد كان عاشقا للغيوان وللعيطة، لذا أنشدت المجموعة الغيوانية عقب الوفاة، مرثيتها الرائعة «ياحباب الغيوان واحد منا صد البارح»، وهي أغنية تأبينية تعكس مدى ارتباط الفقيد بالحركة الغنائية الثراثية، بل إن عمر السيد كان يسميه «مجدوب الغيوان».
خلد المجلس البلدي السابق للمدينة اسمه حين أطلق تسمية «الشهيد عبد الكريم منديب» على أحد أهم شوارع الجديدة. ورغم أن المكتب المسير للدفاع الجديدي لم يبادر إلى تأبين الفقيد، الذي يحمل في حقيبته شهادة إقامة الفريق، إلا أن محبا للفريق يلقب بفاكس كان سباقا للمبادرة، فبعد أربعينية المرحوم نظمت مبادرة تضامنية بملعب العبدي بالجديدة شارك فيها قدماء الرجاء البيضاوي ونظراءهم الدكاليين. ناب محب دكالي عن فعاليات المدينة ومسؤوليها وأرخ للحدث بحضور رفاق عبد الكريم وأفراد أسرته الصغيرة والكبيرة. وبعد عام نظمت إحدى المدارس الابتدائية بالمدينة أياما تضامنية، قبل أن تدخل الذكرى قبو النسيان.

دانيال ألبياك: عاشق ريال مدريد الذي مات بقميص بوطراغينيو

في يوم الفاجعة، حضر دانيال ألبياك الكاتب العام لنادي دار إسبانيا على غير عادته متأخرا، فقد ظلت وفاة والدته تجثم على تقاسيم وجهه، حاول بعض رفاقه انتشاله من الحزن الذي يطوقه، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا غير سجال البارصا والريال، لأنه كان عضوا ضمن جمعية محبي الفريق الملكي، ولا ينتفض إلا إذا شكك شخص في قوة النادي المدريدي أو نال منه.
تقول نادية الجناني، الموظفة بدار إسبانيا في كتابها الذي يؤرخ لفاجعة 16 ماي، والذي اختارت له عنوان: «المأساة»، إن دانيال «عاد من إسبانيا بعد أن حضر مراسيم دفن والدته التي توفيت أياما قبل الفاجعة، فقد كان لديه إحساس داخلي بقرب المنية، طلب مني أن أعد له فاتورته غير المؤداة وكأنه يعجل بتصفية ديونه دقائق قبل ملاقاة مصيره المحتوم».
مات الرجل وهو يرتدي قميص الريال الذي لطالما افتخر برموزه، بل إنه حرص، قيد حياته على تنظيم مباريات لفائدة أطفال المؤسسات الخيرية، تحت رعاية «لابينيا مدريديستا»، وهو المشروع الذي انخرطت فيه جمعية رياضة وصداقة، بل إن صفته كرجل أعمال إسباني كان يدير شركة لمواد التنظيف، ساهم في إقناع رجال الأعمال الإسبان على الاستثمار في الرياضة بتنظيم مباريات تضامنية لفائدة الأطفال المحرومين، بدعم ورعاية من الشركات التي لم تصمد طويلا.
يقول محبوب العامل بدار إسبانيا وأحد الناجين من مأساتها: «في تلك الأمسية كانت الأمور تسير بشكل عادي إلى أن دخل ثلاثة أشخاص بشكل لافت إلى المطعم وهم يركضون. مر أحدهم بجانبي فدفعني بقوة جعلتني أسقط على الأرض. اعتقدت أنهم لصوص. وبينما كنت أحاول أن أقوم سمعت «الله أكبر» ثم حدث الانفجار. عندما أفقت من الغيبوبة لم أستطع النهوض. لكنني لاحظت أن الأشخاص الذين ساعدوني كانوا يتحاشون النظر إلى وجهي».

شقيقان في الرضاعة والانفجار

حين وزع انتحاريو تفجيرات 16 ماي 2003 الأدوار في ما بينهم، اكتشف خالد بن موسى أن المشرفين على الخطة وضعوا شقيقه بالرضاعة في مجموعة أخرى، فقد عهد لخالد بمهمة رئاسة المجموعة المكلفة بتفجير نادي دار إسبانيا، فيما انضم عادل الطائع للمجموعة المكلفة بالهجوم على مطعم قرب القنصلية البلجيكية.
كان خالد بنموسى يبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة، وهو يمارس تجارة صغيرة من أجل تدبير مصاريف عيش العائلة، كبائع متجول بعد أن أعلن استقالته من الدراسة التي لم يمض فيها إلا ست سنوات فقط. بعد انقطاعه عن المدرسة أخذته والدته لحلاق قصد تعلم حرفة الحلاقة.
أما عادل الطائع فلم يكن مساره أفضل من سابقه، حيث توقف عن الدراسة وولى وجهه صوب التكوين المهني، أملا في الحصول على عمل يساعد به أسرته. حصل فعلا على الشهادة لكنه لم يفلح في أي عمل. وعندما طوقته إيديولوجية الموت تجنب أقرانه ورفقاء الدراسة وأبناء الحي واختلى بأخيه في الرضاعة خالد بنموسى ليصنعا من نفسيهما قنبلتين بشريتين انفجرتا ليلة الجمعة 16 مايو 2003 بمدينة الدار البيضاء.
‎ما زال طيف حسن قريب وعاطف أحمد، رجلا الأمن الخصوصي بفندق فرح، حاضرا في نفوس موظفي وأعوان ومالكي فندق فرح بالدار البيضاء. لقد قاما، إلى جانب بلعيد، الذي كتب له عمر جديد، بعمل بطولي، وقفوا سدا منيعا أمام المهاجمين وضحوا بحياتهم لمنعهم من دخوله، وتصدوا للانتحاريين عند بوابة الفندق، ليلة 16 ماي 2003 الرهيبة. بل وحاولوا الحيلولة دون إصابة أي زبون.
وقف هذا الثلاثي أمام ثلاث انتحاريين في هيئة شبان بملابس وأحذية رياضية حاولوا دخول الفندق في تلك الليلة من بابه الرئيسي، فأثاروا انتباه موظفي أمن الفندق حسن قريب وعاطف أحمد اللذين كانا واقفين عند المدخل.
استفسر حسن الشبان عن أسباب النزول، وعن وجهتهم والغاية من ولوج المنشأة الفندقية، فإذا بأحدهم يخرج سكينا ويطعنه به، عند ذلك تدخل موظف آخر اسمه حسن بولعيد واشتبك مع صاحب السكين بينما قام عاطف أحمد بإلقاء نفسه على أحد المهاجمين الذي فجر نفسه، في حين تمكن المهاجم الثالث من ولوج بهو الفندق، غير أن صدمة الانفجار قد أوقعته أرضا قبل أن يتمكن من تفجير نفسه. قتل الحارسان حسن قريب وعاطف أحمد، بينما أصيب حسن بولعيد بحروق وجروح بليغة وفقد عينيه، كما روى الطباخ الرئيسي للفندق.
قال أسطوان محمد مدير فندق فرح (سفير سابقا) منوها بشجاعة حراس الأمن، «إن ما يجعلنا نشعر بالافتخار حقا، هو ما أبداه موظفو الفندق الذين وقفوا سدا منيعا أمام المهاجمين وضحوا بحياتهم لمنعهم من دخوله الأمر الذي حصر الخسائر عند الباب ولم يحدث مكروه لأي زبون». بينما كشف الطباخ عبد القادر عسال، عن اللحظات الأخيرة من المداهمة وقال في تصريح صحفي عقب النكبة، «خرجت مسرعا، بعد الانفجار، لأرى ما حصل، وفي بهو الفندق صادفت ذلك الشخص ملقى على الأرض بدون حركة وفي الباب رأيت منظرا في منتهى البشاعة حيث انتشرت أشلاء أجساد ورؤوس وأطراف ممزقة. فجأة سمعت من يصرخ «اقبضوا عليه، إنه يهرب… اقبضوا عليه» فرأيت ذلك الشخص الذي صادفته ملقى على الأرض يركض خارجا، فتبعته جاريا وضربته بقدمي على ساقه فسقط وارتطم بسيارة كانت واقفة أمام الفندق ليلحق بنا بعض الموظفين في الفندق وشرطيان بلباس مدني ويسيطروا عليه».

باعروب.. الرجل الذي تنبأ بالهجوم فسخر منه رفاقه

قبل تنفيذ الهجوم الانتحاري على دار إسبانيا، نبه حارس المؤسسة إلى وجود شخص مشتبه فيه يتردد على المطعم بين الفينة والأخرى، وقال العربي كرومي الملقب بـ«با عروب» إن زبونا مشبوها يتردد على الفضاء ويمسح بعينيه المكان وكأنه بصدد التخطيط لعمل ما، كان النادل يقدم له وجبة «بايلا» على مضض، فقد كان هندامه يدفع العمال إلى توخي الحيطة من زبون قد لا يدفع الحساب، لكن التحذيرات لم تجد آذانا صاغية، ليتين في ليلة 16 ماي أن هذا الشاب هو الذي سيقوم بذبح العربي حارس بوابة الدار قبل أن يلج المكان ويفجره. تبين أن الحارس منع الشاب من ولوج الدار، لكن هذا الأخير باغت الحارس وطعنه في بطنه، قبل أن يذبحه من الوريد إلى الوريد، ويدخل الدار ركضا.
تقول شهادة إحدى العاملات في المطعم بأن «با عروب» سخر من رئيس المطعم حين اكتشف وجود وجبة الكسكس ضمن لائحة الوجبات المقدمة في يوم الجمعة الذي عرف ليله مداهمة مفجعة، وظل هذا المستجد موضوعا رئيسيا لأحاديثه، إذ لم يسبق لدار إسبانيا أن هيأت الكسكس للزبناء، وكأن القدر يكشف عن وجبة ارتبطت بالمآثم، لذا ظل يردد، وهو يتفحص لائحة الوجبات، «ديرين الكسكس مالنا عندنا لعزا».
استغرب «با عروب» وباقي المستخدمين من دعوة لاجتماع طارئ، فقد اعتاد المشرف محبوب أن يقدم التعليمات شفويا دون الحاجة إلى اجتماع رسمي، لكنه اختار صباح 16 ماي عقد اجتماع وصفه بالهام، تكلم فيه عن مجموعة من التدابير الإدارية، كان يتكلم بلا انقطاع، على غير العادة، وحين خرج المستخدمون عاتبوا في قرارة أنفسهم لهجة الوعد والوعيد، لكن بعد ساعات مات محبوب بعد أن تناثرت أشلاء فكه.
كاد العربي أن ينجو من الفاجعة، فقبل لحظات من زيارة الانتحاري، طلبت منه عاملة نظافة الذهاب إلى دكان مجاور للبحث عن مسامير لإصلاح «كراطة» تعطلت، لكن الحارس رفض وقال له إن مسؤوليته تحتم عليه عدم مغادرة البوابة، خرجت المنظفة تبحث عن وسيلة لإصلاحها، وكأن القدر شاء أن ينجيها من الفاجعة، كما نجت المحاسبة بعد أن غادرت مكتبها ودخلت إلى المطعم لتناول بعض الأكلات.

سعاد البكدوري رئيسة جمعية ضحايا 16 ماي الإرهابية: «تنتظرنا تحديات أخرى أمام إرهاب أصبح عابرا للقارات»

  • هل شعرتم بأن الممل بدأ يتسرب لمكونات جمعيتكم بعد مرور 13 سنة على تأسيسها؟

أظن أن الملل لم يصب عائلات الضحايا بقدر ما أصاب الطرف الآخر، فذوو الضحايا وأفراد عائلاتهم لن يملوا ولن ييأسوا، صحيح هناك بعض المتعاطفين الذين انشغلوا عن الجمعية بعد مرور سنوات عن الفاجعة، كل شخص يعيش الحدث بطريقته الخاصة، لكن صدقوني هناك من لازال يجعل من القضية انشغاله اليومي، أنا شخصيا لا انشغال لدي سوى قضية الإرهاب، ربما لأنني فقدت الزوج والابن، ربما لأنني كنت أتابع خيوط الإرهاب قبل حدوث فاجعة 16 ماي، ربما لأنني معنية كإنسانة فقدت أعز ما تملك، أو كمدرسة لها تتبع خاص بخطر الإرهاب، أنا متيقنة بأن الإرهاب لازال يهددنا، عذرا إذا تكلمت عن حالتي لكن كل ضحية يعيش الحزن على طريقته، أعرف أبناء مفقودين امتهنوا مهنة آبائهم ومنهم من اشتغلوا في نفس المكان الذي سقط فيه والده فقط ليؤكدوا أن الحياة مستمرة في زمن دمر فيها التطرف جدود الأوطان وزحف على كل الربوع. لكن كلما ضرب الإرهاب في أي مكان في العالم أشعر أن عائلتي تتوسع، وأن أفرادا آخرين يضافون إلى هذه العائلة. رسالتي إليهم هي أن نظل أقوياء مهما يكن، وأن نتضامن فيما بيننا محافظين على إنسانيتنا وآدميتنا التي فقدها الإرهابيون المتطرفون، وأن نصبح قوة موازية وإن كنا لا نمتلك السلاح المدمر، وإنما نملك سلاح الحب والسلام.

  • أين وصل مشكل التعويضات وجبر الضرر، هل تمت تسوية جميع الملفات؟

إذا تتبعنا مسار ملف التعويضات نلاحظ أنه عرف عدة مراحل، خاصة بعد القرار الملكي بالتعويض الفوري الذي يؤكد على تسوية وضعية الأرامل والأيتام، المشكل المعلق يخص الجرحى والمعطوبين. هذا الملف أخذ وقتا طويلا، لقد عانوا كثيرا خاصة أولئك الذين كانوا يعملون في دار إسبانيا. هؤلاء تضاعفت معاناتهم بعد إغلاق هذه المؤسسة، فأصبحوا عرضة للبطالة وللألم الناتج عن العمل الإرهابي، خاصة وأن البعض لم يتبع المسطرة الموضوعة، لذا نحن نطالب بتسهيل المساطر، بحكم اتصالي بجمعيات أخرى في دول أوربية. في فرنسا بعد حادث شارلي إيبدو تم تسهيل مسطرة التعويض من خلال الشباك الوحيد، بطريقة سلسة وبوجود متابعة نفسية ومادية، وهنا نفتح قوسا للمطالبة بإخراج صندوق الدعم إلى الوجود، ففي فرنسا مثلا هناك مساهمة مالية لدعم الضحايا عبارة عن مبلغ بسيط يضاف إلى فاتورة التأمين، وعند كل حادث إرهابي يمكن التدخل العاجل لدعم بعض الحالات، لكننا لا نريد إرهابا أصلا حتى لا نكون في حاجة لصندوق دعم.

  • ما هي النسبة المئوية لتسوية الملفات؟

هناك حالة شخص أصيب خلال يوم الفاجعة في أذنه، بعاهة على مستوى السمع، لكن ملفه رفض لأنه لم يحترم المسطرة، علما أن وضعه الصحي لم يكن يسمح له بطرق جميع الأبواب، الآن أغلبية الملفات عرفت التسوية، بمن فيهم الضحايا الذين لم ينجزوا الملف، خاصة بعد إحالة هذه الملفات على الوكالة القضائية بالرباط. ويمكن القول أن الملفات سويت بنسبة 90 في المائة.

  • هل ظلت الجمعية أسيرة حادث 16 ماي؟

في البداية انتخبت رئيسة لجمعية ضحايا 16 ماي التي تأسست في دجنبر 2003، حققنا عدة أهداف وعملنا بمساعدة شركائنا على مساعدة ومؤازرة الضحايا وذويهم وتنظيم أنشطة وتظاهرات لتحسيس الرأي العام بخطورة الإرهاب، وبنينا تذكارا يخلد للفاجعة، ونحن اليوم كما عاينت في إعدادية بدر بالمعاريف حيث نعمل على بث روح التسامح والانفتاح ونبذ كل الخطابات المروجة للفكر الإرهابي وتكريس قيم المواطنة لدى التلاميذ، في إطار مواجهة الإرهاب تربويا ثقافيا وفكريا وترسيخ القيم السمحة. بعد مرور الوقت توسع نطاق ضحايا الإرهاب وأصبحنا ملزمين بالانفتاح على ضحايا جدد.

  • كلما ضرب الإرهاب مكانا انتقلت سعاد إليه وأصرت على مواساة أسر الضحايا. هل تستحضرين 16 ماي عند كل نكبة؟

حين توفيت المصورة ليلى في حادث إرهابي ببوركينافاصو، وجدت نفسي في وسط الجنازة، لأنني رأيت فيها صورة مستنسخة من فاجعة زوجي وابني، فهي تعرضت لهجوم غادر وتأخر إسعافها، على غرار ما حصل لابني، وبعد حدوث انفجار مطعم أركانة توسعت اللائحة. صدقني أن الأمر لم يعد مقتصرا على المغاربة بل إن أجانب انضموا لمشروعنا أبرزهم كرستيان لومبارد التي فقدت ابنتها في حادث أركانة، وهي تحضر في مجموعة من أنشطتنا وتحاضر في بعض المؤسسات التعليمية وتؤكد في كل مناسبة تجمعها مع التلاميذ أنها ستستمر في إحياء هذه الذكرى الأليمة بيننا مادامت لا تحمل أي شعور بالكراهية اتجاه المغرب والمغاربة.
كلما ضرب الإرهاب في أي مكان في العالم أشعر أن عائلتي تتوسع، وأن أفرادا آخرين يضافون إلى هذه العائلة. رسالتي إليهم هي أن نظل أقوياء مهما يكن، وأن نتضامن فيما بيننا محافظين على إنسانيتنا وآدميتنا التي فقدها الإرهابيون المتطرفون، وأن نصبح قوة موازية وإن كنا لا نمتلك السلاح المدمر، وإنما نملك سلاح الحب والسلام.

  • ما هي التحديات التي تنتظر الجمعية في ظل توسع نشاط الإرهابيين وتوغل تنظيم داعش في صفوف الناشئة؟

لقد ضمدنا جراحنا ولازلنا، لذا علينا أن نواصل السير في نفس مسار النضال حبا للأوطان، ومن هذا المنبر ندعو إلى وقف حقن الدماء ووقف نوايا سفك الدماء، سنواصل التحدي من أجل القضية رغم أن جمعيتنا لا تتوفر على أي دعم مالي. نحن اليوم أمام وضع جديد فلم يعد الإرهاب منتوجا للأحياء الفقيرة كسيدي مومن وحومة الشوك في طنجة أو في الأحياء الفقيرة في تطوانبل أصبح عابرا للقارات. الأمن يقوم بواجبه نحن كجمعية نقوم بأعمال تحسيسية في مؤسسات تعليمية بمدن يتعرض شبابها للاستقطاب، قمت بعمل تحسيسي في منطقة باريسية ونلت انطباعات جيدة من الطلبة، في زمن تنامي التدخل في الحياة الشخصية واستباحة الأرواح وهدر الدماء القيم تتعرض للإبادة. هذا ما يجب أن نلتف حوله جميعا الآن وغدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى