![](https://www.alakhbar.press.ma/wp-content/uploads/2019/10/جلبي.jpg)
بقلم: خالص جلبي
في كتابه «رسالة في تحسين الفهم = Abhandung ueber die Verbessung des Verstandes»، بدأ باروخ سبينوزا الفصل الأول بوضع ثلاثة أمور أنها ما يركض خلفها البشر في العادة؛ وأسميها أنا الثلاثي (ش)، أي الشهرة + الشهوة + وشهوة المال.
قام الرجل بتفكيك كامل المنظومة، وتحت سؤال طرحه أيضا الفيلسوف إيمانويل كانط عن السلام الأبدي في علم الاجتماع (Zum ewigen F rieden)، فند الطروحات الثلاثة أنه حتى مع الوصول إليها سيجدها سرابا كما جاء في سورة «النور» عن ظاهرة السراب، أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وظاهرة السراب احتار في تفسيرها العلم، حتى تطورت علوم النور ففهمناها.
مضى سبينوزا في التحليل، فقال يظن البعض إن (الثروة) تخلق السعادة وهي جزء من الحقيقة، فليس أغنى من «كريستينا بنت أوناسيس»، ومع ذلك فقد ماتت انتحارا قهرا وغما، ولو كان المال شرفا لكان «قارون» سيد الأنبياء؛ فخسف الله به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا.
ويظن البعض أن (الشهرة) سبب للسعادة، ولو كان ذلك صحيحا لكانت «مارلين مونرو» الأمريكية الشهيرة سيدة السعداء، ولكنها أنهت حياتها بالانتحار. ولو كان (النفوذ) سببا للسعادة، لما أنهى وزير المالية الفرنسي «فوكيه»، وزير الملك لويس الرابع عشر، الملقب بملك الشمس، حياته في زنزانة انفرادية في جبال الألب، أو العديد من الوزراء والمسؤولين الكبار وهم يرتعدون فرقا كل حياتهم في المنصب وخارجه.
ويقال عن «نيكيتا خروشوف» إن ما أبقى على حياته عند ستالين تحوله إلى مهرج في حفلات الجبار، يصب على رأسه أقداح الفودكا صبا، فيضحك خروشوف مستلقيا على ظهره مثل كلب صيد. وهناك فيلم احتفظت به في مكتبتي يشرح الحياة التي قضاها خروتشوف في الحلقة الضيقة من الجبار ستالين.
ويظن البعض أن (اللذة) هي السعادة، ومنه دعا الفيلسوف اليوناني أبيقور إلى اغتراف اللذات في الحياة، وينقل عنه قوله: عندما يحضر الموت فلن نكون موجودين. والنموذجان الكبيران لاغتراف اللذات، هما شاعر الجاهلية «طرفة بن العبد» و«الخيام»، اللذان رأيا في الحياة تلك الفترة القصيرة، التي هي أقصر من أن نقصرها بالترهات، فيجب ملء كأسها بالملذات كؤوسا دهاقا. فأما الأول فزعم أنه لولا ثلاث جميلة في الحياة لما انتبه إلى شيء آخر منها ممارسة الزنا في بيت دعارة (مع فتاة = بهنكة)، وقدح الخمرة، والنزول لقتال شباب آخرين. وأما الثاني فرأى في الحياة تفاهة تروح فيها الأيام وتغتدي كما تهب الريح في الفدفد.
ولكن الملذات مشكلة من جهتين؛ فالإفراط في تعاطي الكحول يقود إلى تشمع الكبد، والإفراط في الجنس ينتهي بأمرين: إما بالأمراض التناسلية، أو إلى البرود الجنسي عكس مقصوده. وأعظم اللذات عندما تأتي في وضع الإشباع، سواء الماء مع شدة العطش، أو الطعام مع فرط الجوع، أو الاتصال الجنسي بفاصل مناسب.
ويرى عالم النفس البريطاني «هادفيلد» أنه لا بد من التفريق بين ثلاث السرور والسعادة واللذة؛ فاللذة هي ممارسة الغريزة بدون بعد أخلاقي، وهو أمر نشترك فيه مع الحيوانات. أما السرور فهو ممارسة متعة غريزة ضمن إطارها المعنوي الأخلاقي. ولكن السعادة هي عملية التوازن بين إشباع الغرائز، وهو يصل بكلامه هذا إلى فتح علمي؛ فيمكن لفلاحة تعيش في ريف بسيط، أو بدوية تسكن في خيمة أن تكونا في غاية السعادة في أي من المكانين، كما يمكن أن يحصل عكسه لأكبر مسؤول في كرسي الحكم. بمعنى أن المرأة التي تقوم بإشباع غرائزها على نحو سوي أخلاقي، يمكن أن تتمتع بسعادة بدون حدود، في الوقت الذي يحرم منها مسؤول كبير لا ينقصه المال والخدم والحشم والنفوذ والشهرة.
ويروى عن بعض الصوفية قولهم: لو علم الملوك بما نحن فيه من السعادة لقاتلونا عليها بالسيوف. ووصف الله عباده الصالحين في أكثر من مكان بأنهم تحرروا من مرضي الخوف والحزن. ومن تخلص من الحزن وصل إلى السعادة، ومن نجا من الخوف ذاق راحة البال عطاء غير مجذوذ.
وهذا هو السؤال الذي بدأ الفيلسوف سبينوزا كتابه فيه بعنوان رسالة في تحسين العقل، كما أشرنا، فأين نجد السعادة الشاملة بدون انحصار والمستمرة بدون توقف؟ وحاول الوصول إليها كما حصل مع بوذا، حين رأى زوجته الجميلة مستلقاة في أحضانه، فتذكر الشيخوخة والذبول، فركض برجله وأقام تحت شجرة التين الليالي ذوات العدد بدون طعام، فلم يصل إلى شيء حتى كانت ليلة فتح الله نافذة الفهم أمامه، أن السعادة فيض داخلي فاقتنصها.
وفي تقديري أن الصوفية والفلاسفة والحكماء والمفكرون والمربون كلهم حاولوا ذلك، ولكن الأرض فيها حزن ونصب وعذاب وكدح حتى نلاقي الرب، وعندها نقول الحمد الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور، وفيها يصرف عنا الفزع الأكبر، وفيها ينزع من صدورنا الغل إخوانا على سرر متقابلين.
نافذة:
يظن البعض أن الشهرة سبب للسعادة ولو كان ذلك صحيحا لكانت مارلين مونرو الأمريكية الشهيرة سيدة السعداء ولكنها أنهت حياتها بالانتحار