
نعيمة لحروري
في زاوية منسية من مدينة بركان، سقطت يسرى، ابنة الثماني سنوات، في فم الموت المفتوح وسط الشارع.
لم تكن سوى طفلة عائدة من دروسها، تحمل بين ضلوعها أحلاما صغيرة بحياة لا تعرف فيها سوى دفء الأسرة وحنان الطفولة، لكن الأرض فتحت جوفها وابتلعتها، وكأنها لم تكن!
أنا أمٌّ.. وكأني أنا من فقدتها. رأيت صورتها، قرأت الخبر، فابتلعتُ الألم كما ابتلعها الظلام في قعر البالوعة. لم أتحمل.. لم أستطع حتى إكمال القراءة، فالألم أكبر من الحروف، أوسع من الكلمات. كيف سقطت؟ كيف جرفتها المياه بعيدا عن حضن أبيها؟ كيف تركتها المدينة، بكل مؤسساتها ومسؤوليها، تسقط في حفرة من الإهمال؟
لم تكن يسرى الضحية الأولى.. ولن تكون الأخيرة. شوارعنا مليئة بمصائد الموت، بالوعات مفتوحة، طرقات محفوفة بالمخاطر، بنايات تتهاوى فوق ساكنيها، وأرواح تُسلب يوميا دون أن يهتز للمسؤولين جفن. هل صار موت الأطفال خبرا عاديا نستهلكه كل يوم؟ هل اعتدنا أن نرى صورهم ونكتب عنهم بضعة أسطر، ثم نطوي الصفحة ونمضي؟
لكني أمٌّ.. ولا أستطيع أن أمضي. كيف لأنفاس أمها أن تهدأَ بعد أن شهقت صرختها الأخيرة، وهي ترى الماءَ يبتلعُ صغيرتَها؟ كيف لأبيها أن ينام بعد أن مدَّ يده لينقذها، فلم يجد سوى الفراغ؟ هل أخبره أحد أن المدينة التي يعيش فيها لا تصلح لطفلة تحلم بالعودة إلى البيت سالمة؟
غضب يملأُ صدري، لكن ماذا يفيد الغضب، إذا كانت يسرى قد رحلت؟ ماذا ينفع الحزن، إن كان العالم مستمرا في طريقه كأن شيئا لم يكن؟ سأصرخ باسمها، سأكتب عنها، ليس لأنها ابنة بركان، بل لأنها ابنتنا جميعا، ضحية إهمال لا يضع غطاء على بالوعاته، ولا يضع ضميرا في قلوب مسؤوليه. ضحية عجزِ من يفترض فيهم أن يحموا الصغار، لكنهم يتركونهم للموت، ثم يطوون الصفحة وكأن شيئا لم يكن.
لم يكن يجب أن تموت يسرى.. لم يكن يجب أن نكتب عنها بهذه الطريقة. كان يجب أن تكون الآن تلعب مع صديقاتها، تراجع دروسها، أو تعود إلى حضن أمها التي كانت تنتظرها بباب البيت، لكنها لن تعود.. ولن تطرق الباب مجددا.
يسرى رحلت.. لكن مسؤولية موتها ما زالت هنا، تتجول بين مكاتب المسؤولين، في ميزانيات المشاريعِ المتأخرة، في غياب الرقابة، في اللامبالاة القاتلة
أعيدوا إلي يسرى.. أعيدوها ولو في طفل آخر ينجو غدا، في إصلاح حقيقي، في محاسبة جادة، في بلد يُبنى على حياة أبنائه، لا على قبورهم.