وزارة الفراغ والعناكب وتأهيل الرياح
عليهم أن يفكروا جيدا في استغلال مقر وزارة الثقافة في شيء مفيد بدل تركه فارغا إلا من مكتب الوزير. وبما أن الأخبار بين الفينة والأخرى تكشف وجود موظفين أشباح في وزارة الثقافة، وآخرين يهشّون الذباب، فإنه من غير المجدي أبدا أن يبقى هناك مقر شاسع لهذه الوزارة، خصوصا وأن الثقافة نفسها باعت المفاتيح وغادرت إلى وجهة مجهولة. لماذا تبقى الوزارة إذن؟
ليس في الأمر أي مبالغة، فآخر ما يمكن أن تجده في المغرب هو الثقافة. الأنشطة الثقافية الوحيدة التي تُبرمج سنويا في المغرب هي المشتقة من مسابقات التنقيب عن المواهب التي أصبحت كلها محصورة في الغناء. على المشهد الثقافي أن ينتظر مرور مغربي أو مغربية في مسابقة لاختيار الأصوات في الخليج، ويجمعه مع السابقين واللاحقين والفقاعات لإحياء الأمسيات الثقافية التي يحضر فيها كل شيء إلا الثقافة. وتصبح بذلك الإصدارات الثقافية إنتاجا مغربيا خالصا خاليا من مادة الورق.
توقيع الدواوين التي يصدرها أصحابها بمجهود شخصي، يشبه المعجزات إلى حد كبير، تبقى هي الوجه الخجول للثقافة المغربية التي لم يعد يرعاها أحد، بالإضافة إلى الإصدارات العلمية التي لم تعد مواضيعها تغري أحدا للأسف، وتتخلى عنها الوزارة بلا أسف.
باب آخر أغلقته وزارة الثقافة منذ زمن عملا بالقاعدة التي تقول إن نهاية المشاكل تبدأ بإغلاق النوافذ التي تدخل منها الرياح. وعلى ذكر الرياح، فإنها هي الشيء الوحيد الذي يتحرك بنشاط داخل المؤسسات الثقافية، بعدما أصبحت خالية من الكراسي ومن الحضور، فالكل مشغول هذه الأيام بالجلوس في المقاهي وممارسة رياضة تشييع المارة يوميا إلى مثواهم الأخير.
من الإهانة أن تكون لدينا وزارة للثقافة في المغرب، مهما كانت ميزانيتها ضئيلة، وتكون لدينا قاعات سينمائية مغلقة لسنوات طويلة، تحولت بفعل الإهمال وانقراض الثقافة إلى مراحيض مفتوحة. بسبب انكماش دور وزارة الثقافة، تحولت معالم تاريخية كثيرة في المغرب إلى مشاريع عقارية مدرة للربح، وكادت معالم أخرى أن تلقى المصير نفسه لولا لطف الله وانتفاضة آخر الغيورين القلائل على الثقافة المغربية ومعالمها.
في أكادير مثلا، كاد الطيش أن يودي بأقدم معلمة في المدينة. يتعلق الأمر بالبناية الوحيدة التي صمدت في وجه الزلزال، بفضل شكلها المقعر. مجرد التفكير في هدم سينما «السلام» يعد جريمة في حق الذاكرة الجماعية للمغاربة، وهنا تكمن الخطورة. من العيب أن يكون بيننا أناس يفكرون في تحويل معلمة مماثلة إلى عمارات سكنية ومكاتب. السينما التي لم تعد كذلك للأسف، كانت البناية الوحيدة التي تختزل تاريخ أكادير كلها. تشبه برميلا مغروسا في الأرض، يتسلقه الأطفال صيفا بصدور عارية في طريقهم إلى البحر. منظر كان يتكرر كل يوم، نشاهده عندما كنا طلبة جامعيين نتمشى في اتجاه الخزينة للحصول على المنحة الجامعية.
في الأخير، يروج بعض المعتوهين لفكرة إمكانية استغلال مكان السينما لتشييد بنايات جديدة، وكأن الأمر يتعلق بتجديد الديكور داخل منازلهم الخاصة.
مدينة أخرى، تعد وجها غابرا من أوجه الثقافة المغربية. طنجة التي قصدها الكثيرون بما أنها توجد في نهاية المغرب. يهربون إليها من أشياء كثيرة.. بها محلات عتيقة تتكدس فيها مئات المخطوطات النادرة التي صنعت تاريخ المغرب. أولى الفنادق التي بنيت في المغرب، كانت في طنجة. أولى السفارات والقنصليات والتمثيليات الأجنبية التي أنشئت في المغرب كانت في طنجة كذلك. أولى المسارح التي شيدت في المغرب، كانت في طنجة وليس في مكان آخر. قاعات بطراز معماري باذخ وزخارف تغص بالتفاصيل وفنادق بشرفات تطل على البحر، استضافت قيد مجدها شخصيات وازنة ومشاهير من أوروبا وأمريكا وكتّابا مدينين لها بروائعهم الأدبية.. بنايات كلها تصطف، شبه واقفة، في انتظار «الزفرة» الأخيرة التي يخر بعدها الإسمنت حتى لو كان مسلحا. وحده منظر رجل عجوز مقوس الظهر، يمر أمام المارة لإنهاء مهمته التاريخية في اجتياز الساحة التاريخية التي ألقى فيها الملك الراحل محمد الخامس، خطابه التاريخي بطنجة في أبريل من سنة 1947. لا شيء أبدا يدل على أن تلك الساحة هي مسرح ذلك الحدث. لا لوحة ولا تذكار ولا حتى إعلانا للعموم ولو بخط رديء أو صباغة رخيصة أسفل الجدار. فلماذا نُبقي على وزارة الثقافة إذن؟