ورطة اللبنانيين مع صندوق النقد الدولي
عبد الستار قاسم
لبنان تطلب دعما ماليا من صندوق النقد الدولي، علما أن هذا الصندوق ليس صندوق إحسان أو صدقات، وإنما هو إحدى أدوات العولمة الأمريكية والتي تتبع سياسات اقتصادية متعمدة لإفقار دول العالم، بخاصة غير الثرية منها. يقدم صندوق النقد الدولي قروضا بفوائد عالية، ويتطلب تبني سياسات اقتصادية معينة قبل الموافقة على منح القروض، وعلى رأسها خوصصة مؤسسات عامة يحتاجها كل الناس، وتحويل الاقتصاد الوطني للدولة إلى اقتصاد تابع يهيمن عليه احتكاريون محليون يتعاونون مع شركات أجنبية، بالأخص شركات أمريكية وأوربية. ينزع الصندوق المؤسسات العامة من يد الدولة، ويصر على رفع المعونات التي تقدمها الدولة للناس مثل معونة مادة الخبز وذلك بحجة دعم ميزانية الدولة، فيزداد الفقراء فقرا والأثرياء ثراء، وينقسم المجتمع إلى فئتين: إحداهما فقيرة مدقعة، والأخرى فاحشة الثراء والرفاهية، ويرتفع منسوب الكراهية والبغضاء بين الناس وتزداد الرغبة في الانتقام. صندوق النقد الدولي لا يمنح قروضا إلا بشروط مهينة.
هل جاب اللبنانيون العالم لينظروا ماذا حل بالمقترضين من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والدول الثرية؟ العديد من الدول غير الثرية ليست قادرة حتى الآن على تسديد الفوائد المترتبة على الديون. ولهذا ترتفع مديونية هذه الدول باستمرار وهي لا تستدين. إنما الفوائد المتراكمة تُضاف على القروض الأصلية لتبقى مبالغ الدين بارتفاع مستمر. هل رتبت مصر أوضاعها الاقتصادية بعدما لجأت إلى الصناديق الدولية؟ وماذا عن دول أوربا الشرقية التي ما زالت تئن من العوز والفقر؟ وكذلك الحال بالنسبة إلى دول أمريكا اللاتينية ودول إفريقية وآسيوية. المفروض الاتعاظ بتجارب الدول الأخرى. النتيجة أن الصناديق الدولية ومعها منظمة التجارة الدولية مصممة لتخريب اقتصادات الدول، والتي ستلجأ في النهاية إلى الدول الثرية للاقتراض، والدول الثرية بخاصة الولايات المتحدة تجد في ذلك فرصتها للهيمنة على اقتصادات الدول وعلى أنظمتها السياسية والاجتماعية، ما يسهل عليها تحقيق تطلعاتها العولمية. فإذا أراد اللبنانيون تصحيح أوضاعهم الاقتصادية، فإن المؤسسات المالية الدولية ليست العنوان الصحيح.
هناك مشكلتان أساسيتان في الوطن العربي يتوجب مواجهتهما لتصحيح الأوضاع الاقتصادية والمالية، تتمثل الأولى في الفساد الذي يمارسه الحكام وزبائنهم المقربون. حوالي ثلث الميزانيات العربية تذهب في مجاري هذا الفساد، وهذه نسبة كبيرة وعالية مدمرة للناس وسبل معيشتهم. العرب بحاجة إلى التخلص من الحكم الفاسد، وهذا لن يتأتى إلا بثورات شعبية، نظرا لامتناع الحكام عن وضع خطط واستراتيجيات حقيقية لمحاربة الفساد والفاسدين. الفساد هو أحد عناصر تثبيت الحكم في البلدان العربية، ولا يمكن القضاء عليه بالكلام الطيب اللطيف. أما الثانية فتتمثل في غياب سياسات دعم الإنتاج المحلي. العرب بحاجة إلى إنتاج المواد الغذائية، لكن لو نظرنا إلى سياسات دعم الفلاحين والمزارعين المنتجين لوجدناها غائبة إلى حد كبير، ومساحات زراعية واسعة غير مستغلة، ولبنان هي أحد الأمثلة على ذلك. خطط واستراتيجيات دعم الإنتاج غير متوفرة، على الرغم من رغبة الناس الشديدة للنهوض للعمل المثمر. الاستيراد يتغذى على الإنتاج المحلي، على الرغم من أن الإنتاج المحلي يأتي للدولة بالمزيد من الضرائب والمزيد من فرص العمل. حكام العرب لا يكترثون بالمبدعين والمتميزين والمخترعين، وهم يغامرون بذلك بعناصر مهمة في العملية الإنتاجية، والتي تعتمد على التطورات العلمية والعملية التي تحفز عجلات الإنتاج، وينتهي الأمر إلى هروب الخبرات والكفاءات من البلاد إلى ديار أخرى تقدر قيمة الإنسان.
ومن المهم ملاحظة أن الاقتراض ومراكمة الديون لا يجلبان سوى المذلة والمهانة، ويقللان من أهمية الاعتماد على الذات كاستراتيجية تتبناها الدولة للوقوف على أقدامها. لم تتبن دولة عربية غير سوريا استراتيجية الاعتماد على الذات، وبقيت أغلب الدول العربية تستعطي وتتسول المساعدات من الآخرين. ومن المفروض أن ينتبه اللبنانيون إلى ما يصنعون.
تتآكل الإرادة السياسية للدولة كلما تزايدت الديون. صاحب المال سيد، والمتسول عبد لا يملك إرادة سياسية حرة، وطالما تخلت دول عن حريتها السياسية من أجل المال. ومن أراد أن يكون سيدا حرا منتجا داعما لمجتمعه وشعبه وأهله، عليه ألا يجعل يده سفلى.