وا تعليماه
قبل عشر سنوات تحديدا من الآن، وفي غمرة عشرية الإصلاح، قررت حكومة التناوب فتح الباب للمغادرة الطوعية في قطاع التعليم، وحُددت لها شروط، سيتبين في ما بعد أن واضعيها هم أنفسهم المستفيدون منها، حيث أصيب القطاع بنزيف بشري حقيقي، غادر بموجبه آلاف الموظفين في عز العطاء، مستفيدين من امتيازات أضحت الآن حلما «فردوسيا» لكل موظف ما زال يعمل في ظل هذه الحكومة. فإذا كانت تفاصيل هذه العملية قد أثبتت بالملموس أن قطاع التعليم يدبره فاسدون ومفسدون، مرتشون وراشون، لا فرق فيهم بين «صغير» في نيابة، و«كبير» في مكتب وزاري، حتى وإن كان اسما رنانا يُحسب في عِداد «القيادات اليسارية.. كذا»، لكون العملية كلها، استفاد منها «المناضلون» المحسوبون على الأحزاب المشكلة للحكومة آنذاك، فضلا عن ذوي النفوذ والراشون، حتى ولو لم تتوفر فيهم الشروط المطلوبة، فإنها أثبتت أيضا قصورا صادما في النظر، يصل لدرجة العماء الكلي، وإلا ما معنى أن يسمح بمغادرة مفتشين وإداريين ومدرسين ذوي خبرات، ليتم اللجوء في ما بعد للتوظيفات المباشرة لموظفين بدون تكوينات ولا خبرات؟
واليوم، ها هو النزيف نفسه، لكن هذه المرة جاءنا من التعليم الخصوصي، المُصر على أن يكون مصدرَ مشكلات لا تنتهي للتعليم العمومي، تعليم الفقراء، بدل أن يكون في مستوى «الشراكة» التي ينعم بريعها منذ عشر سنوات. وهاهم أرباب التعليم الخاص يوقعون على عقود مجزية مع مدرسين بلغوا سن التقاعد النسبي لإقناعهم بمغادرة التعليم العام، حتى قبل أن يحصلوا عليه، هاهم يلتفون حول المقرر الوزاري الذي يمنع عليهم كليا الاستعانة بمدرسي التعليم العام، ابتداء من السنة القادمة، بطريقة غير أخلاقية تماما، وهي اختيار أجود العناصر، التي يمكن التعويل عليها في التأطير التربوي والمصاحبة التربوية وفي التدريس الجيد، ودفعها لمغادرة القطاع في السنة الأولى لإصلاح يسمى «الرؤية الاستراتيجية». ولأن الأمر حقيقي تماما، ولا مبالغة فيه، فإن المئات من المدرسات والمدرسين، وضعوا طلباتهم للتقاعد النسبي، وعينهم على القطاع الخاص، حيث يتبادلون المنافع مع أرباب هذه المدارس الخاصة، والذين وجدوا في المتقاعدين حلا رخيصا، لكون هؤلاء يشتغلون بدون تكلفة إضافية، من قبيل الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية، لذلك فبدل أن يساهم هذا القطاع في تشغيل الشباب الحاملين للشواهد، التخصصية والتربوية، من قبيل خريجي برنامج تكوين عشرة آلاف إطار تربوي، فإن انتهازيتهم التي أدمنوا عليها منذ سنوات، دفعتهم إلى طرق أبواب أخرى للريع، مستفيدين من معطى قانوني، وهو عدم منع المتقاعدين من مزاولة مهنة التدريس في القطاع الخاص، بخلاف ما هو جار به العمل في كل الدول الأوربية، حيث لا يجوز للمتقاعدين العمل في المدارس الخاصة اللهم إلا كمتطوعين.
لذلك، فإذا كانت وزارة التربية الوطنية صادقة فعلا في إلزام القطاع الخاص بمقتضيات الشراكة، كما ينص على ذلك النظام الأساسي المنظم للقطاع، والمعروف بـ006، فإنها مطالبة أيضا في أقرب وقت بصياغة تشريع يقطع الطريق على مصاصي الدماء، الذين لا يكتفون باستغلال الأسر في فواتير غريبة، واستغلال المجازين في شروط عمل تنتمي لعصور «نظام السُّخْرة»، بل والإصرار على إحداث المزيد من الثقوب في سفينة التعليم العمومي المتهالكة.