جميلة أوتزنيت
قريبا من مكاتب «العدول» بحي الحبوس بالدار البيضاء، يمارس بعضهم نشاطهم غير القانوني. بشكل فردي أو جماعي، حولوا فعلهم إلى مورد رزق سهل. إنهم شهود زور يقتاتون من الكذب والجور، غير آبهين بفظاعة الجرم الذي يقترفونه، ولا بالعقوبات الحبسية التي قد تطولهم بسبب الإدلاء بمعطيات لا يدركون عنها شيئا.
يحدث هذا رغم وعيد وزير العدل والحريات، مصطفى الرميد، بالتصدي لهؤلاء، واتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم، كاشفا أنه تم خلال سنتين فقط ضبط ما يفوق 800 شاهد زور، تمت متابعة 427 منهم سنة 2012، و374 شخصا سنة 2013. فمن هم شهود الزور؟ وكيف يشتغلون؟ وكيف يتواطأ الفاعلون في ميدان القضاء معهم؟ وما هي الحلول الكفيلة بردعهم؟ تقرؤون كل ذلك وأكثر في الموضوع التالي.
ليست مكاتب العدول في حي الحبوس بالدار البيضاء المكان الوحيد الذي يرتاده شهود الزور، بل يوجدون أيضا بالقرب من المحاكم والمستشفيات والمقاطعات وفي الأسواق.
قامت «الأخبار» بجولة بين المحاكم وبالقرب من مكاتب العدول في كل من القنيطرة والرباط والدار البيضاء، ورصدت تحركات بعض من هؤلاء الذين يتعاملون، رغم كل شيء، بحذر.
يرابطون في المقاهي أو الحدائق العمومية المجاورة، ينتظرون من هم في حاجة إلى «خدماتهم». «شفت هادوك تاهوما تايفيقو الصباح تايترزقو على الله، ولات عندهم بحال شي وظيفة..»، يقول حارس سيارات في شارع مجاور لإحدى المحاكم بالرباط، يشهد نشاط هؤلاء الذي يشتغل بعضهم فرادى فيما يعمل آخرون في جماعات. هؤلاء يستعينون بوسيط يبحث عن قضايا مقابل عمولة، بينما يحصل الشهود المزيفون على «أجر» يختلف بحسب القضايا، ويتراوح في الغالب بين مائة وخمسمائة درهم.
أناس يجلس بعضهم على أبواب المحاكم يبيعون ذممهم ولا يستحون أن يقولوا «تريد شهادة» أو «تريد أحداً يشهد معك» فيشهد معه في أمر لم يره مقابل ثمن بخس، أو لأجل صداقة أو قرابة أو عداوة للطرف الثاني، أو لأجل مجاملة أو خوف منه. وقد تكون سلفا فيشهد له في قضيته على أن يشهد له في قضيته.
شهود الزور بين مدنيين ومحلفين
تعتبر شهادة الشهود من أقدم وسائل الإثبات، ولها أهمية كبرى في الدعاوى القضائية، خصوصا الجنائية منها. فإذا كانت الشهادة زورًا، قد تؤدي إلى أن يُدان بريء ويعاقب، أو يُبرَّأ مجرم ويفلت من العقاب. «ولهذا عاقبت القوانين على الشهادة الزور التي عُرِفت منذ أن عرف الإنسان الجريمة والعقاب، في المجتمعات القبلية وفي الحضارات الفرعونية وبلاد ما بين النهرين. وقد عاقب عليها قانون حمورابي بقطع لسان صاحبها. كما نهت الديانات السماوية عن الشهادة الزور واعتبرتها من الكبائر»، يقول محمد الهيني، نائب وكيل الملك باستئنافية القنيطرة.
شهادة الزور معقدة يتداخل فيها العرف والأخلاق والوازع الديني. يقول عبد الله كورجي، نائب وكيل الملك بمحكمة الجنايات بالرباط، أنه يصعب إثبات شهادة الزور. فإن لم يردع لا الوازع الديني ولا الأخلاقي شاهد الزور فإن الحقيقة تغيب، و»لا تظهر إلا مثلا باعتراف من الشخص ذاته أو الشخص الذي استعان به أو تضارب في المعلومات وانهيار شاهد الزور أمام القاضي وأسئلة النيابة العامة».
يظن كثير من الناس أن شهادة الزور مقتصرة على التي في المحاكم وعند القضاة وهذا إنما هو نوع من أنواع الزور الشاهد والمشهود له مجرمان فيه غاية الإجرام والشاهد أشد إجراماً لأنه يبيع دينه بدنيا غيره وأشد إجراماً منهما القاضي أو الحاكم إذا كان يعلم أن شهادة الشاهد كاذبة كما هو حال بعض الشهود الذين يرابطون عند أبواب المحاكم فيترددون على القاضي مراراً وتكراراً في قضايا مختلفة ولأناس مختلفين.
شهود الزور متنوعون، والشائع هم أولئك الذين يشهدون كذبا إما بمقابل أو بالإكراه. لكن هناك نوعا آخر من شهود الزور يهم فئة المحلفين. يوجد على رأس هؤلاء رجال الشرطة الذين يخونون القسم، وقد يصدرون مخالفات ضد مواطنين أو يتهمون أبرياء بالباطل. ينضاف إليهم الأطباء خصوصا الطب الشرعي الذين يزورون الشهادات الطبية، والخبراء الذين تعينهم السلطة القضائية لإجراء خبرات في وقائع معينة.
جريمة تقتضي الردع
يقول محمد الهيني، نائب وكيل الملك بمحكمة الاستئناف بالقنيطرة إن شهادة الزور تعد جريمة بتوفر عناصر ثلاث. أولها أداء الشهادة أمام سلطة قضائية في دعوى جنائية أو مدنية أو إدارية، حيت يستدعى الشاهد بقرار من المحكمة. ثم كذب الشهادة أو تحريفها للحقيقة، والقصد الجرمي.
تقتصر مهمة الشاهد عمومًا على سرد الوقائع المادية التي علم بها والتي لها علاقة بموضوع النزاع الذي يشهد فيه. وإذا كانت أقوال الشاهد مبنية على رأيه الخاص أو استنتاجاته فلا يكون قد ارتكب جريمة شهادة الزور حتى ولو كان رأيه خاطئًا أو استنتاجاته غير صحيحة أو تقديره مخالفًا للواقع ما لم تُقدّر المحكمة عكس ذلك. ولذلك، يجب أن يثبت الكذب في الشهادة أو تحريفها للحقيقة بهدف التغيير المقصود والمتعمد للحقيقة وللوقائع.
أما إنكار الحق فهو الموقف السلبي الذي يتَّخذه الشاهد من وقائع أو حقائق معينة عبر نفي الحقيقة بما يتعارض مع صحتها من خلال إنكار علمه أو معرفته بواقعة معينة رغم علمه الأكيد بها. وكذلك، إن كتم بعض أو كل ما يعرفه الشاهد من وقائع القضية التي يُسأل عنها يشكل أيضًا زورًا في شهادته.
ولمواجهة شهادة الزور يقترح محمد الهيني، الى جانب الاجراء الذي تعتزم وزارة العدل اعتماده وهو وضع كاميرات داخل المحاكم، (يقترح) تخويل المحاكم استبعاد الشهود دائمي الحضور بالمحاكم بإثارة القاضي التجريح من تلقاء نفسه، والحاجة لتدقيق مسطرة الاستماع للشهود بمواجهتهم بجميع الأسئلة التي تمكن من تقييم صدق شهاداتهم حتى لا يكون استماعا روتينيا سريعا وإجراء شكليا.
من بين الحلول أيضا تمكين الشهود من مصاريف التنقل تلافيا لاقتضائها من الخصوم، والتعامل الحسن معهم أمام المحاكم وتفعيل الحماية الجنائية والأمنية لهم عن مختلف الأضرار والتضييقات المترتبة عن أداء شهادتهم.
كما يدعو الهيني إلى تشديد العقاب عن شهادة الزور وجعلها جناية في جميع الأحوال ومعاقبة جميع مساعدي القضاء المتواطئين مع شهود الزور. فضلا عن تفعيل القضاء لوسائل التحقيق العلمية ومنها الخبرة القضائية بدل شهادة الشهود وإعداد خطة وطنية للتحسيس لمواجهة شهادة الزور.
عقوبات تنتظر شاهد الزور
في الشرع تعد شهادة الزور من أكبر الكبائر لما يترتب عليها من جور، وفي القانون الجنائي المغربي من شهد زورا في جناية يعاقب بالسجن من خمس إلى عشر سنوات. وفي حال ما ثبت تلقيه مقابلا سواء كان هدية أو مبلغا من المال أو وعد يعاقب بالسجن من 10 إلى 20 سنة. وإذا حكم على المتهم بعقوبة اشد من السجن المؤقت، فإن شاهد الزور الذي شهد ضده يحكم عليه بنفس العقوبة، كما ينص عليه الفصل 369 من القانون الجنائي.
أما من شهد زورا في قضية جنحية فيعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات، ويمكن أن تصل إلى 10 سنوات ان حصل على مقابل. ومن شهد زورا في مخالفة يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين. وفي قضية مدنية أو إدارية يعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات وقد تصل إلى عشر سنين في حال ثبوت حصول شاهد الزور على مقابل.
وينص الفصل 373 على أنه «من استعمل الوعود أو الهبات أو الهدايا أو الضغط أو التهديد أو العنف أو المناورة أو التحايل لحمل الغير على الإدلاء بشهادة أو تصريحات أو تقديم إقرارات كاذبة، في أية حالة كانت عليها الدعوى، أو بقصد إعداد طلبات أو دفوع قضائية، في أية مادة كانت، يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائة وعشرين إلى ألفي درهم».
شكيب مصبير الكاتب العام للنقابة الوطنية لعدول المغرب : «عدم تفعيل القانون وتساهل المهنيين من عدول ومحامين وقضاة يشجع شهود الزور»
- بداية، من هم شهود الزُّور؟
شهود الزُّور هم أناس بالغون سن الرشد مؤهلون قانونا لأداء الشهادة، يمكن أن يكونوا رجالا أو نساء، يدلون بشهادات لفائدة الغير تغييرا للحقائق مقابل تعويض مادي أو مجاملة رغم عدم علمهم بالوقائع أو تحريفا لها، ويمكن أن يكونوا أفرادا يدلون بشهادتهم أمام المحاكم أو جماعة ( اثنا عشر شاهدا) وهو ما يسمى باللفيف العدلي أمام عدلين أو أربعة عدول فيما يتعلق باللفيف المستفسر.
- في أي القضايا تكثر شهادة الزُّور؟
تكثر شهادة الزُّور في قضايا عديدة يصعب إعطاء أرقام دقيقة بشأنها في غياب إحصاءات ميدانية ولكن على العموم : فيما يتعلق بالأسرة ،النفقة ، والهجر، والغيبة ، والضرر. وفي مسائل تتعلق بتأسيس الملكيات موجب استمرار الملك، وفي الخصومات بين الجيران، وفي الخصومات داخل الإدارات..
- كيف يمكن التمييز بين شاهد زور من عدمه؟
شاهد الزُّور يظهر من خلال اضطراب في شهادته على سبيل المثال الذي يصرح بأنه يثق في الشخص الذي أحضره وأنه موافق على كل ما قال رغم عدم علمه بالوقائع كما يصرح لنا البعض عند إدلائهم بشهادتهم وهذه الشهادة لا نقبلها ونوضح للشاهد مدى خطورة هذا السلوك وتبعاته، وهنا يمكن أن يكون فعله مجاملة لصديق أو مقابل تعويض مادي، ونعرف نماذج من هؤلاء الأصناف ونحتاط منهم ربما لوجودهم اليومي أمام مواقف الشغل تحت ضغط الحاجة يستجيبون لمن طلبهم.
- ما الذي يشجع هؤلاء على ممارسة هذا الفعل رغم تبعاته القانونية؟
الذي يشجعهم هو تساهل مجموعة من الفاعلين في الميدان: مهنيون من عدول، محامون، قضاة وأضف على ذلك عدم تفعيل القانون معهم وبصرامة. عندما يلاحظ العدول أو القضاة شهود بعينهم يدلون بشهادات مختلفة وعلى طول السنة وجب التبليغ عنهم قصد تحريك تحقيق حولهم وبالتالي إن تبين أنهم شهود زور وجب تحريك متابعات ضدهم ومعاقبتهم عبرة للآخرين.
- ما المشاكل التي تواجهونها في عملكم العدلي بسبب شهود الزُّور؟
ما نعانيه في بعض الأحيان هو تراجع شهود وربما شاهد واحد ويصبح العدل في قفص الاتهام، في حين أن الأصل هو إخضاع الشاهد لعملية السؤال والتحقيق معه كيف شهد شهادة وتراجع عنها، ولا علاقة للعدل بذلك، ما عدا إن تبث في حق العدل تراجع جميع الشهود وبالدلائل وهو معروف بذلك وله سوابق وهذا نادرا ما نجده. وعندما يصبح العدل متهما تبدأ المأساة ولنا من الأمثلة على ذلك الكثير، في حين أن اللفيف يعتبر من دلائل الإثبات في القضاء المغربي حسبما هو وارد في الفصل 404 من قانون الالتزامات والعقود المغربي المادة 3 شهادة الشهود ووسيلة قررها الاجتهاد المالكي منذ القرن الثامن الهجري تقريبا وجرى عليها العمل إلى الآن وهناك قرار للمجلس الأعلى بخصوص اللفيف وهو القرار رقم 809 بتاريخ 25/12/1982 ذهب إلى أن شهادة اللفيف تعتبر حجة رسمية من حيث الشكل فقط أما محتواها فمجرد شهادة، ووجب التفريق بين الشهادة الاسترعائية والعلمية.
- ما الإجراءات التي ترونها كفيلة بالتصدي لشهود الزور؟
كخطوات عملية وجب تفعيل القانون وبصرامة ضد هؤلاء الذين يثبت في حقهم شهادة الزُّور والقيام بوصلات إعلامية توعوية تحذيرية عبر الراديو والتلفاز والإعلام المكتوب، وعدم تساهل المهنيين والقضاء في قبول شهادة من يشكون في ذممهم وفساد أخلاقهم، وتفعيل دور المساعدين والمساعدات الاجتماعيات وأعوان السلطة في التحري في القضايا المعروضة على المحاكم، من خلال بحوث دقيقة ينجزونها. وأملنا أن يعاد النظر في العمل باللفيف بالشكل الذي نحن عليه من تقليص للعدد مع مقاربة للنوع.