
تعيش الفلاحة الوطنية واحدة من أصعب فتراتها، في ظل تفاقم أزمة الجفاف التي تضرب البلاد للعام الخامس على التوالي. فمع تراجع التساقطات المطرية إلى مستويات مقلقة، يواجه القطاع الفلاحي، الذي يعد ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني ومصدر رزق لملايين المغاربة، تحديات غير مسبوقة تتراوح بين شح الموارد المائية وتقلص المساحات المزروعة، فضلا عن تداعيات ذلك على الإنتاج الفلاحي والأمن الغذائي.
في ظل هذه الظروف، تتجه الأنظار إلى الاستراتيجيات الحكومية والتدابير المتخذة لمواجهة الأزمة، بالإضافة إلى الابتكارات التكنولوجية والممارسات الزراعية المستدامة التي قد تشكل طوق نجاة للقطاع.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على تداعيات الجفاف على الفلاحة المغربية، ونستعرض الحلول الممكنة لضمان استدامة الإنتاج الفلاحي في مواجهة التقلبات المناخية.
النعمان اليعلاوي
يُعد الجفاف من أبرز التحديات التي تواجه الفلاحة المغربية، حيث يؤدي إلى تراجع الإنتاج الزراعي، نقص الموارد المائية وارتفاع أسعار المواد الغذائية. في السنوات الأخيرة، شهدت البلاد موجات جفاف متتالية أثرت سلبًا على القطاع الفلاحي الذي يساهم بحوالي 14 في المائة من الناتج الداخلي الخام ويوفر نحو 40 في المائة من فرص العمل.
ووفقًا لبيانات وزارة الفلاحة والصيد البحري والمياه والغابات، تراجعت معدلات التساقطات المطرية خلال موسم 2022-2023 بنسبة حوالي 60 في المائة مقارنة بالمعدل السنوي العادي البالغ 600 ملم. في بعض المناطق، لم تتجاوز التساقطات 200 ملم، مما أدى إلى جفاف الأراضي الزراعية وانخفاض منسوب السدود.
ويمثل إنتاج الحبوب جزءًا أساسيًا من الفلاحة لكنه سجل انخفاضًا حادًا بنسبة 67 في المائة خلال موسم 2021-2022، حيث لم يتجاوز الإنتاج 3.4 ملايين طن مقارنة بالمعدل السنوي البالغ 9.8 ملايين طن. تضررت الزراعات المعتمدة على الأمطار مثل الشعير والقمح، ما أدى إلى تراجع المساحات المزروعة بنسبة 50 في المائة كما تراجعت الموارد العلفية الطبيعية، مما تسبب في انخفاض القطيع الوطني بنسبة حوالي 20 في المائة بسبب ارتفاع تكاليف العلف واضطرار العديد من الفلاحين إلى بيع ماشيتهم.
انخفضت نسبة ملء السدود إلى أقل من 30 في المائة في بعض المناطق، مثل سد المسيرة، الذي يعد ثاني أكبر سد في المغرب، حيث لم يتجاوز مستوى الملء 10 في المائة وتقلصت الموارد المائية الجوفية بسبب الاستغلال المفرط، ما أدى إلى جفاف العديد من الآبار التقليدية.
فضلا عن ذلك ارتفعت أسعار الخضر والفواكه بنسبة 30 في المائة في الأسواق المحلية بسبب انخفاض الإنتاج. وأجبر الجفاف العديد من الفلاحين الصغار على الهجرة نحو المدن بحثًا عن فرص عمل، مما زاد من الضغط على المدن الكبرى. واضطرت الحكومة إلى استيراد أكثر من 4 ملايين طن من الحبوب لتعويض النقص، ما أدى إلى ارتفاع فاتورة الاستيراد وتأثيره على الميزان التجاري.
ولمواجهة آثار الجفاف، أطلقت الحكومة عدة برامج، من بينها برنامج خاص لدعم الفلاحين بقيمة 10 مليارات درهم لمساعدة المتضررين وتوفير الأعلاف المدعمة. كما تم توسيع مشاريع تحلية المياه، مثل محطة الدار البيضاء التي من المتوقع أن توفر 300 مليون متر مكعب سنويًا. بالإضافة إلى ذلك، يتم تشجيع الزراعات المقاومة للجفاف مثل زراعة الزيتون والصبار، وتنويع مصادر الري بالتقنيات الحديثة.
أصبح الجفاف تحديًا هيكليًا للفلاحة الوطنية ما يتطلب استراتيجيات مستدامة لضمان الأمن الغذائي والحد من تأثيرات التقلبات المناخية، علما أن الاستثمار في التقنيات الحديثة والحلول المستدامة يعد الحل الأمثل لمواجهة هذا التحدي المتزايد.
الشعير المستنبت.. بديل الأعلاف في ظل الجفاف
في خطوة مبتكرة لمواجهة تحديات ندرة الأعلاف وارتفاع أسعارها، تم إطلاق مشروع جديد يعتمد على تقنية استنبات الشعير المخصص للأعلاف داخل حاضنات ذكية يتم التحكم فيها عبر أنظمة إلكترونية متطورة. ويتيح هذا النظام إنتاج ما بين 80 كيلوغراماً إلى طن من الشعير المستنبت يومياً، وهو ما يعادل محصول سبعة هكتارات من الكلأ على مدار العام.
وقال محمد العربي، مسؤول التسويق بالمشروع، إن الشعير المستنبت يمثل بديلاً واعداً يوفر ما يقارب 50 في المائة من احتياجات الأعلاف الخضراء، خصوصاً في ظل محدودية الأراضي الفلاحية وتزايد الطلب على المنتجات الغذائية. وأوضح العربي أن المشروع يأتي استجابةً للمنافسة المتزايدة بين زراعة المحاصيل الموجهة للاستهلاك البشري وتلك المخصصة لعلف الماشية، ما دفع الحكومات إلى استيراد اللحوم والحيوانات الحية لسد النقص في الإنتاج المحلي.
ويشير الخبراء إلى أن نقص الموارد العلفية يعد من أبرز العقبات التي تواجه تنمية الإنتاج الحيواني، حيث لا تحصل الماشية في العديد من المناطق على كفايتها من المغذيات اللازمة لضمان إنتاجية عالية. ومن هنا، سعت الأبحاث العلمية إلى تطوير حلول بديلة، من ضمنها تقنية استنبات الشعير التي تسمح بإنتاج أعلاف خضراء بجودة عالية وباستهلاك محدود للمياه والطاقة.
ووفقاً للعربي، فإن وحدة إنتاجية صغيرة لا تتجاوز مساحتها 3 أمتار مربعة، قادرة على إنتاج 80 كيلوغراماً من العلف يومياً، وهو ما يكفي لإطعام ثماني بقرات أو 40 رأساً من الأغنام أو 100 دجاجة. كما أن هذا النظام يقلص استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 100 في المائة مقارنة بالزراعات التقليدية، حيث يعتمد على ري دقيق ومقنن، فضلاً عن كونه موفراً للطاقة بفضل إمكانية تشغيله عبر الشبكة الكهربائية أو أنظمة الطاقة البديلة.
وأضاف المتحدث أن المشروع لا يقتصر على الضيعات الصغيرة ومربي الماشية فقط، بل يمتد ليشمل المزارع الكبرى التي اقتنى بعض أصحابها حاضنات قادرة على إنتاج خمسة أطنان يومياً من الشعير المستنبت. غير أن سعر هذه الحاضنات، الذي يصل إلى 14 مليون سنتيم، لا يزال يشكل عائقاً أمام العديد من الفلاحين. وأوضح العربي أن تصنيع هذه الحاضنات داخل المغرب يساهم في ارتفاع تكلفتها، لكنه أعرب عن أمله في إطلاق برنامج دعم حكومي لتسهيل اقتنائها، نظراً لدورها المهم في مواجهة أزمة الجفاف وارتفاع أسعار الأعلاف.
ويعد هذا المشروع نموذجاً للابتكار في القطاع الفلاحي، حيث يسعى إلى تعزيز الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على استيراد الأعلاف، مما يساهم في دعم المزارعين وضمان استدامة الإنتاج الحيواني في المغرب.
السقي بالدرون.. التكنولوجيا في خدمة الري
شهد القطاع الفلاحي المغربي تطورًا ملحوظًا مع تبني التقنيات الحديثة، ومن أبرزها استخدام الطائرات بدون طيار (الدرون) في عمليات السقي. ويُعَدُّ هذا الابتكار استجابة للتحديات المناخية وشح الموارد المائية، ويهدف إلى تحسين كفاءة استخدام المياه وضمان استدامة الإنتاج الزراعي.
وحسب مختصين في المجال الفلاحي، فإن استعمالات الدرون في المجال الفلاحي تساعد بشكل كبير على مراقبة دقيقة للمحاصيل تُمكِّن الدرونات المزارعين من جمع بيانات دقيقة حول حالة الأراضي والمحاصيل، مما يساعد في اكتشاف الأمراض والآفات في مراحلها المبكرة وتحديد المناطق التي تحتاج إلى اهتمام خاص.
بالإضافة إلى توجيه السقي بدقة من خلال تحليل الصور الجوية والبيانات المستشعرة، يمكن للدرون تحديد المناطق الجافة وتوجيه عمليات الري بشكل دقيق، مما يقلل من هدر المياه ويحسن إنتاجية المحاصيل، وزيادة الإنتاجية التي تُساهم الدرون في زيادة كفاءة العمليات الزراعية، حيث يمكنها معالجة 12 هكتارًا بواسطة علاجات الصحة النباتية في غضون ساعة واحدة، مقارنةً بمعالجة الجرارات لهكتارين فقط، مما يزيد الإنتاجية بنسبة 600 في المائة، زيادة على الوصول إلى المناطق الوعرة، حيث تُتيح الدرون الوصول إلى المناطق التي يصعب على الآلات التقليدية الوصول إليها، مثل التلال والتضاريس شديدة الانحدار، مما يحسن تغطية المحاصيل.
بالإضافة إلى ذلك، شهد المغرب تطوير طائرات درون محلية الصنع مخصصة للأغراض الفلاحية، مثل طائرة (ماسد- إم 6) (MASD-M6)، التي تُعَدُّ تقنية مبتكرة لمعالجة المحاصيل الزراعية جوًا.
وفي تصريح لجريدة «الأخبار»، أكد الحسين فلاح، صاحب ضيعة فلاحية في منطقة الشاوية، أن «تبني تقنية الطائرات بدون طيار (الدرون) في عمليات السقي بضيعتنا جاء استجابة للتحديات المناخية الحالية، خاصة شح المياه، بهدف تعزيز كفاءة استخدام الموارد المائية وضمان استدامة الإنتاج الفلاحي».
وأوضح فلاح أن تقنية الدرون تتيح مراقبة دقيقة لاحتياجات المحاصيل وتوجيه السقي إلى المناطق التي تتطلب ذلك بالضبط، مما يقلل من هدر المياه ويزيد من فعالية العمليات الزراعية. وأضاف أن هذا المشروع «يعكس التزامنا بتبني أحدث التقنيات لضمان استدامة القطاع الفلاحي في منطقتنا، ونأمل أن يكون نموذجًا يُحتذى به في المغرب وخارجه».
وأشار الحسين فلاح إلى أن استخدام الدرون في السقي الفلاحي يُعتبر خطوة مبتكرة نحو تحقيق التنمية المستدامة، خاصة في ظل التغيرات المناخية وشح الموارد المائية. وأكد أن هذه التقنية ستساهم في تحسين جودة المحاصيل وزيادة الإنتاجية، مما يعود بالنفع على الفلاحين والاقتصاد الوطني بشكل عام.
وفي ختام تصريحه، دعا فلاح الجهات المعنية والفلاحين إلى دعم وتبني مثل هذه المبادرات التقنية الحديثة، التي تسهم في تطوير القطاع الفلاحي وتحقيق الأمن الغذائي للمملكة.
التكنولوجيا الحيوية في مواجهة التغيرات المناخية
يواجه القطاع الفلاحي تحديات كبيرة، نتيجة التغيرات المناخية التي تؤثر بشكل مباشر على الإنتاج الزراعي وتجعله عرضة للجفاف والملوحة وانتشار الأمراض والآفات. وفي ظل هذه الإكراهات، أصبح من الضروري تبني حلول علمية وتقنية متطورة تساهم في تعزيز صمود القطاع الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي. وفي هذا السياق، توفر التكنولوجيا الحيوية الحديثة، سيما التسلسل الجيني والنسخ الجيني والتعبير الجيني، إمكانيات هائلة لتحسين النباتات والحفاظ على الموارد الطبيعية.
ويعد برنامج التكنولوجيا الحيوية لتنمية الفلاحة الوطنية إحدى المبادرات الرائدة التي تهدف إلى استغلال هذه التقنيات المتقدمة لتحسين الزراعات ذات الأهمية الاستراتيجية مثل الأركان، التمر، الحبوب والأشجار المثمرة. ويسعى البرنامج إلى تعزيز الاستفادة من الموارد الجينية عبر توظيف تقنيات حديثة كالتسلسل الجيني والإعلاميات الحيوية، مما يساهم في تحسين أصناف زراعية أكثر قدرة على مقاومة الضغوط البيئية والإحيائية.
وحقق المعهد الوطني للبحث الزراعي تقدمًا ملموسًا في تسريع برامج الانتقاء الزراعي، حيث تمكن من توصيف دقيق للأصناف النباتية المهددة وتحليل العوامل الممرضة التي تؤثر عليها. ويهدف هذا الجهد إلى زيادة عدد الأصناف المدرجة في السجل الرسمي، ما يسهم في توفير أصناف جديدة ذات إنتاجية مرتفعة وقدرة أكبر على التكيف مع الظروف القاسية.
وفي إطار دعم برنامج الإنتاج المخبري لشتلات نخيل التمر، تم اعتماد تقنيات التصنيف الجيني باستخدام الواسمات الجزيئية، مما مكن من التحقق من هوية وصحة الشتلات المنتجة مختبريًا. بالإضافة إلى ذلك، شهد البحث في مجال الأركان ونخيل التمر تطورات ملحوظة من خلال استكشاف التسلسل الجيني لهذه الأشجار واستثمار النتائج المحصلة في تحسين برامج الانتقاء والمحافظة عليها.
إن التقدم الحاصل في مجال التكنولوجيا الحيوية يمثل فرصة كبيرة لتطوير القطاع الفلاحي، حيث يتيح تقنيات مبتكرة تعزز مناعته ضد التحديات البيئية والمناخية. ويعد الاستثمار في البحث العلمي والتطوير الزراعي خطوة حاسمة نحو تحقيق الاستدامة الزراعية وضمان الأمن الغذائي للأجيال القادمة.
تحلية مياه البحر.. حلول مستدامة للسقي
يُعَدُّ اعتماد المغرب على تحلية مياه البحر خيارًا استراتيجيا لمواجهة تحديات ندرة المياه وضمان استدامة القطاع الزراعي. ويهدف هذا التوجه إلى توفير أكثر من 1.7 مليار متر مكعب سنويًا من المياه المحلاة بحلول عام 2030، مما سيسهم في تلبية احتياجات القطاع الزراعي.
ومن بين المشاريع التي تشكل تجارب مميزة في هذا الجانب، مشروع سقي 5000 هكتار في الداخل، حيث يُعتبر هذا المشروع مبتكرًا، ويستند إلى منهجية متكاملة تشمل الماء والطاقة والتغذية. ويهدف إلى إنشاء وحدة لتحلية مياه البحر لاستخدامها في الري الزراعي، مما يعزز التنمية المستدامة في المنطقة.
بالإضافة إلى مشروع تحلية مياه البحر لسقي سهل اشتوكة وتزويد أكادير الكبير بالماء الصالح للشرب، يهدف هذا المشروع إلى الحفاظ على الفرشة المائية لشتوكة، المهددة بالتوغل البحري، وتأمين الري في هذه المنطقة الزراعية
الحيوية، بالإضافة إلى تزويد منطقة أكادير الكبرى بالمياه الصالحة للشرب، وسيتم استخدام الطاقات المتجددة، مثل الطاقة الريحية والشمسية، في تشغيل محطات تحلية مياه البحر، وهو التوجه الذي يهدف إلى خفض تكلفة الإنتاج وتقليل التأثيرات البيئية، مما يعزز الاستدامة البيئية والاقتصادية لهذه المشاريع.
وحسب أرقام رسمية، فإنه يتم العمل على زيادة إنتاج المياه المحلاة إلى 1.424 مليار متر مكعب بحلول عام 2030. من هذه الكمية، سيتم تخصيص حوالي 490 مليون متر مكعب للري الزراعي، مما يعزز الأمن الغذائي واستدامة القطاع الفلاحي في البلاد، ومن خلال هذه المشاريع والمبادرات، يسعى القطاع الفلاحي في بلادنا إلى تعزيز سيادته المائية وضمان استدامة موارده الطبيعية، مع التركيز على تلبية احتياجات القطاع الزراعي الحيوي.