نكتة القرن..
بعكس ما قد تتوقعونه، فإن آخر ما قد يهتم به الناس في العالم، هو إدانة طوني بلير أو جورج بوش حتى، بتهمة قتل الأبرياء في الحرب الأخيرة على العراق.
لا يحتاج العالم إلى كل هذه السنوات الماضية ليتأكد من أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، قدم لبلاده ذريعة كاذبة ليبرر مشاركته للولايات المتحدة الأمريكية في خطة غزو العراق. كان الأمر واضحا منذ البداية.. لكن لا أحد اهتم للأسف. والعالم اليوم يسير بخطى ثابتة نحو تكريس الغباء في كل مكان.
عموما، تبقى مهنة رئاسة الوزراء أسوأ مهنة في التاريخ، لأنها «تمرمد» صاحبها بأثر رجعي. وهذا بالضبط ما يقع الآن. سنكون أغبياء، وأغلبنا كذلك للأسف، إن صدقنا أن قرار مشاركة بريطانيا في غزو العراق كان بيد طوني بلير وحده. وإذا صدقنا هذا الأمر، فإن المسألة كلها تستحق أن تصبح «نكتة» القرن.
البريطانيون يقولون إنهم خفيفو الدم. الأمريكيون يرون العكس. بقية دول العالم لا تكترث بهذا الأمر كثيرا، والأمر الوحيد الذي يعرفونه عن بريطانيا أنها دولة تؤدي خلال العقود الأخيرة ثمن استعمارها لأغلب دول العالم، واستقبلت ملايين من اللاجئين من مختلف الديانات، إلى أن أصبحت البلاد كرة أرضية مصغرة في حيّ سكني واحد.
بريطانيا استقبلت المتشددين الذين طردتهم الأنظمة العربية خلال السبعينات والثمانينات، وسمحت بطباعة المجلات الإسلامية التي كانت توزع في العالم العربي، والتي تنشر حوارات مع الشيوخ وأقطاب الحركات الإسلامية، بمن فيهم الإخوان المسلمون الذين طحنتهم رحى الأحداث الأخيرة في مصر.. والذين أسسوا تنظيم «القاعدة» واعتبرهم العالم كله إرهابيين، كانوا يلتهمون الحلوى البريطانية التي أدمنوا شراءها بكل سعادة في محلات لندن ومانشستر، وكانت بريطانيا توفر لهم «الكلأ» والماء، إلى أن اختمرت أفكارهم وسمحت لهم، هكذا وبدون مقدمات، لكي يغادروا صوب أفغانستان، ليقنعونا في الأخير أن هؤلاء الناس أسسوا تنظيما إرهابيا تجب محاربته، وكأنهم جاؤوا هكذا من فراغ، ولم يصدرهم أحد إلى الجبال التي كانوا يرسلون منها الرسائل المسجلة بكاميرات الحفلات العائلية..
سيكون مثيرا للشفقة فعلا تصديق هذه النكتة السمجة التي تحاول وضع «نهاية» عبر إيجاد شمّاعة لنعلق عليها الأخطاء السياسية والكوارث التي تسبب فيها الغرب.
وحدها عائلات الجنود المساكين الذين اقتيدوا إجباريا، ليشاركون في الحرب، يسحون بمرارة من نوع خاص، يمكن تفهمها على الأقل ما دام أصحابها قد أدوا ثمن الحرب من ألبومهم العائلي وليس من جيوبهم. ورغم أن بعضهم كانوا يفتخرون إلى حدود السنة الأخيرة بأن أبناءهم شاركوا في غزو العراق وقدموا خدمات جليلة لوطنهم، وهاهي العائلات اليوم تكتشف أن أبناءها لم يكونوا في الحقيقة إلا «بيادق» في لعبة بئيسة.
إذا أردنا أن نكون أكثر دقة، فإن الجميع إرهابيون بشكل أو بآخر، وليس «بلير» وحده. بن لادن كانت تموله أمريكا أيام حربه ضد الروس. الظواهري كان مطرودا من بلاده واستقبلته بريطانيا. الذين نفذوا الهجمات الإرهابية وسافروا إلى أفغانستان، كانوا يدخلون بريطانيا وأمريكا مثلما نذهب نحن إلى «مولاي يعقوب» ولا أحد تساءل حتى كيف يحصلون بتلك السهولة على التأشيرة وقيمة التذاكر.
عائلات الجنود الذين قتلوا الأبرياء في العراق، حصلوا على تعويضات سخية مقابل موت أبنائهم هناك.. حتى أن أغلبهم خلال السنوات الماضية كانوا يعتقدون أن أبناءهم أبطال حرب، وهاهم جميعا في الأخير يرون أنهم مجرد بؤساء اقتيدوا في حرب لا يعرفون عنها شيئا، ليموتوا باسم بلادهم، بإيعاز من رئيس الوزراء، بناء على كذبة!
الأمر يشبه إلقاء القنبلة الذرية على اليابان. بدأ الأمر ملحمة أمريكية احتفلت خلالها البلاد كلها بالعسكريين والطيارين الذين ألقوا تلك القنبلة. بعد سنوات بدأ الأمريكيون يرون فيهم مجرمي حرب. واكتملت النكتة عندما طالب البعض بمحاكمتهم.. وفي الأخير اعتذر الأمريكيون لليابان، وأصبحوا اليوم يحضرون ذكرى تلك الكارثة الإنسانية.
هكذا يفكر الغرب. يدمرك، يحتفل، يدين رئيس الوزراء في الأخير، ويعتذر منك باسم الإنسانية ومعارضة الحروب.
قديما، قال أحد السفراء المغاربة الذين زاروا لندن ليقدموا التهنئة باسم السلطان المغربي لإدوارد السابع عندما جلس على عرش المملكة، إن البريطانيين يغرقون في النعيم ويركبون العربات التي تتحرك فوق السكة، ويستقبلون المطر بانتظام.. لكن شيئا ما لديهم، ليس على ما يرام.
لا بد أن سفيرنا رأى جدّ طوني بلير في أحد الشوارع. ربما..