نقد العِلموية
عبد الإله بلقزيز
غيرت نتائج الفتوحات العلمية الكبرى، بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، وجه العالم جذريا، فألقت بتأثيراتها العميقة على ميادين الحياة الإنسانية كافة، وذللت ما لا حصر له من الكوابح والمعوقات التي كانت تعترض إرادة الناس في مغالبة ظروفهم الاجتماعية والصحية.
ولم تبق ميادين الفكر الأخرى، من خارج علوم الطبيعة والعلم الرياضي، بمعزل عن تأثيرات نتائج العلوم فيها؛ فقد تلقت، هي الأخرى، فتوحات العلم بالكثير من الانفتاح على نتائجها، وبالكثير من توطين قيم العلم في نسيج التفكير فيها؛ بحسبانها القيم التي انتصرت وفرضت نفسها بما هي المعايير الأساس لأي تفكير.
كانت الفلسفة أول من تلقى تأثيرات العلم فيه، سواء في تيارها العقلاني الفرنسي والألماني، أو في تيارها التجريبي الإنجليزي.
ولم يكن القرن التاسع عشر قد هل حتى فشت مدارسها النقدية فشوا كاسحا. غير أن أكثر من تأثر بالروح العلمية التجريبية – حتى لا نقول نشأ بتأثير مباشر منها – هي العلوم الاجتماعية والإنسانية، خاصة علم الاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس.
سَرَتِ النزعة العلمية في هذه الميادين الدراسية، على نحو شامل، فمست مناهجها ومفاهيمها وطرائق بنائها المعرفي وتقرير استنتاجاتها.
على أن زحف النزعة التطورية، أو التطورانية في النظرة إلى المجتمع وظاهراته، مع سبنسر، لم يكن يُفصح عن رغبة في استدخال المنظور الدارويني للطبيعة في تحليل المجتمع فحسب، وإنما قارب الاعتقاد بانمحاء المائز الموضوعي بين الطبيعة والمجتمع وبزوال الفارق بين علومهما! والاعتقاد هذا هو الذي سيتبلور التعبير الفكري عنه في أطروحات أوغست كونت، تلميذ السان سيمونية الفرنسية، في تأسيسه علم الاجتماع على القواعد العلمية المستقاة من علوم الطبيعة.
ولقد يكفي نعته العلم هذا باسم الفيزياء الاجتماعية ليدلنا على مقدار تمكن هذه العقيدة العلمية من أذهان مؤسسي علوم المجتمع والإنسان والمشتغلين بها، وسعيهم الدؤوب في إحلال قيمها: وإلى حدود المحاكاة والمطابقة أحيانا!
والحق أن فشو الروح الوضعانية في النظر إلى الظواهر الاجتماعية والإنسانية بمقدار ما أهدر الحدود بين الظواهر الصماء (الطبيعية) والظواهر المقترنة بفعل الإرادة الإنسانية، قاد إلى الإخفاق في إخضاع المجتمع والإنسان للدرس العلمي المطابق؛ أعني المناسب لطبيعة موضوعه، وعَجِز عن أن يتأدى من «موضوعية» التحليل، أو وضعانيته، إلى بناء توقعات دقيقة على مثال ما يفعل العلم؛ إذ تفرض موضوعيته التسليم بمبدأ الحتمية: الشروط نفسها تؤدي، حتما، إلى النتائج عينها. لقد كان تغييب عوامل الإرادة، والوعي، والخيال، والإيمان من الدرس الاجتماعي الوضعي، والإخضاع القسري للظواهر الإنسانية للمناهج الفيزيائية وبالا على علوم المجتمع والإنسان، لم تتحرر من كوابحه إلا في نهايات القرن التاسع عشر وأوائل العشرين تحررا نسبيا: مع الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي خاصة.
والأنكى أنه حتى حينما كانت علوم الطبيعة تتعرض لأزمات إيبيستيمولوجية حادة، وتتلقى مبادئ فيها نقدا عميقا من العلماء، وتتعاظم الشكوك في الكثير من يقينياتها، ظلت الوضعانية السوسيولوجية والإنسانية سادرة في أوهام علميتها وصرامة طرائقها المستقاة من العلوم!
وقد تكون الوضعانية تراجعت، نسبيا، في العلوم الاجتماعية في سياق التحولات المنهجية والرؤيوية الكبرى التي شهدت عليها الأنثروبولوجيا في القرن العشرين، غير أن تراجعها لم يمنع من ازدهار متجدد للعِلموية ولنزعة تقديس العلم.
والأدعى إلى الغرابة أن العلموية هذه دخلت حتى في مجال معرفي ليس من مجالات العلم هو الفلسفة. بدأت النزعة هذه تتسلل إلى الفلسفة من مدخل فلسفة اللغة، ثم لم تلبث مدرسة الوضعية المنطقية أن أرست لها الأسس الفلسفية، متأثرة في ذلك بالرياضيات. غير أن الاندفاعة الكبرى للعلموية في ميدان الفكر الفلسفي كانت تلك التي عبرت عن نفسها في سنوات الستينيات، من القرن العشرين، في كتابات الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير وتلامذته، وخاصة تلك التي كان مدارها على فكر كارل ماكس وجدليات الإيديولوجي (= الفلسفي) والعلمي في أعماله الفكرية. ومع أن الموجة العلموية الألتوسيرية أتت متأثرة بدراسات الإيبيستيمولوجيين الكبار في ذلك الحين (باشلار، كانغيليم، بياجي)، وكان هدفها دحض الإيديولوجيا والانتصار للمعرفة، إلا أنها غالت، غلوا كبيرا، في تبجيلها للعلم، وتركت بذلك آثارا سلبية في مجمل التفكير الفلسفي، قبل أن تنحسر في نهايات السبعينيات.