ممدوح الشيخ
منذ انتهاء الحرب الباردة، ربما لم تكن المعركة حول جدارة الديمقراطية الغربية وآفاق مستقبلها أكثر احتداما مما هي الآن، وتتواتر المساجلات حول المصير الذي ينتظرها بناء على نتيجة الحرب على أوكرانيا. ورغم أن هذا الخطاب ينطوي على تبسيط شديد، ويمنح المواجهة الروسية الأوكرانية أبعادا كونية، لكنه يعكس المنعطف الذي تمر به هذه الديمقراطية. ولعل المسعى الروسي/ الصيني للتبشير بما يُطلق عليه «الاستبداد الفعال»، والاتهامات الأمريكية بأن الحليفين (روسيا والصين) يسعيان إلى تقويض الديمقراطيات الغربية فعليا، تجعل هذه النقاشات تكتسب أهمية استثنائية حتى في أكثر الديمقراطيات عراقة.
وقبل أيام، حذر عسكريون أمريكيون سابقون من مشكلات في العلاقات المدنية العسكرية في أمريكا، في بيان نشره موقع War on the Rocks، المتخصص في الشؤون الدفاعية. البيان عنوانه: «أفضل الممارسات في العلاقات المدنية/ العسكرية»، وبين موقعيه ثمانية وزراء دفاع سابقين، كالجمهوري بوب غيتس، والديمقراطي ليون بانيتا، وكذلك جيمس ماتيس ومارك إسبر، اللذين أقالهما الرئيس السابق ترامب، لأنهما عارضاه. ومن الموقعين أيضا خمسة رؤساء أركان سابقين. ومن عبارات البيان: «نحن في بيئة تتسم فيها العلاقات بين المدنيين والعسكريين بصعوبة كبيرة»، و«يواجه المهنيون العسكريون بيئة غير مواتية تتسم بالانقسامات»، و«في أول انتخابات منذ أكثر من قرن، عندما تعطل الانتقال السلمي للسلطة السياسية». وأشار البيان إلى إمكانية التعارض بين ضرورات الانضباط العسكري، و«قانونية» الأوامر الصادرة من أعلى. وواجه جو بايدن انتقادات واسعة، أخيرا، بعد إلقائه خطابا سياسيا هاجم فيه أنصار ترامب، بينما خلْفَه اثنان من المارينز.
ومنذ الأزمة المالية العالمية التي بدأت من الغرب في 2008، ثمة شكوك عميقة في كفاءة الديمقراطية، وفي العبء الذي ألقته على كاهلها نتائج التحالف بين مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، حيث ألقيا بثقل دولتيهما بقوة غير مسبوقة لفرض «النيولبيرالية» داخليا وعالميا، مستخدمين نفوذهما في صندوق النقد والبنك الدوليين، وهي موجة وصلت إلى قمتها بإقرار ما سمي «إجماع واشنطن» (1989)، ما جعل الديمقراطية في العالم كله تدفع فاتورة الجموح النيولبيرالي، وكانت أكثر ثمرات هذا الجموح مرارة أزمة العام 2008.
ومع تساند أسباب تأزم دولية متزامنة، شهدت قلاع الديمقراطية، التي بدت، إلى عدة عقود، «الأكثر حصانة»، صعودا كبيرا لتيارات معادية للديمقراطية وصعودا مشهودا للفاشية عبر صناديق الانتخابات. ومع عودة أجواء الحرب الباردة، لكن هذه المرة، بين مثلث: واشنطن/ موسكو/ بكين، أصبحت الديمقراطية هدفا لسهام نقد ودعوات متحمسة لتشييعها إلى مثواها الأخير. وفي أمريكا، كانت حقبة حكم ترامب فصلا دراميا من فصول امتحان الديمقراطية. وكان متوقعا، كما يعكس البيان المشار إليه، أن تشهد المؤسسات الأمريكية انقسامات حول العلاقة الشائكة بين «القيم الديمقراطية» و«الإجراءات الديمقراطية». ومنذ عقود، لخص المفكر الأمريكي العبقري جي برادفورد ديلونغ، (النائب المساعد السابق بوزارة الخزانة الأمريكية وأستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا)، تاريخ القرن العشرين بالصراع بين طريقتين لـ«إدارة المجتمعات»: الديمقراطية والشمولية. واليوم يعيد فلاديمير بوتين بعث الصراع مستلهما مقولات ألكسندر دوغين، عبر استهداف تقويض الديمقراطية، وفي الوقت نفسه، التبشير بما يسميه «الاستبداد الفعال».
وفي ظل انقسام سياسي/ ثقافي أمريكي كبير، تدفع الديمقراطية، مرة أخرى، فاتورة أخطاء الآخرين، فالمواجهة المفتوحة بين محافظي أمريكا وليبرالييها في الكونغرس والسلطات المحلية والمحكمة الدستورية والفضاء الافتراضي هي حول المعايير والقناعات، أي حول طريقة «إدارة المجتمع»، وهو معنى أوسع بكثير من الدور المنوط بالديمقراطية وسيلة لتداول السلطة وحماية الفصل بين السلطات، قبل أية مهمة أخرى. وعندما تنقسم المجتمعات حول «حدود» العلاقة بين قيم مثل: الحق والحرية والنظام، فإن الديمقراطية لا يُنتظر منها إنتاج المعايير، بل دورها أن تنظم تحويل المعايير إلى إجراءات وأشكال قانونية، ثم مهام تنفيذية، وتلك مشكلة أمريكا الراهنة.
الإجراءات الاجتماعية الاقتصادية التي تتبناها إدارة بايدن، بدءا من إعفاء ملايين الطلاب من ديونهم مرورا بوعده بـ«ضريبة ثروة» بأربعة تريليونات دولار، وصولا إلى تبني إجماع دولي على فرض ضريبة شركات عالميا، جميعها توجهات سوف تسهم في إبعاد الديمقراطية عن «آثام» النيوليبرالية، لكن الاشتباك المدني/ العسكري يبقى إحدى القضايا الحساسة في أي نقاش حول الديمقراطية، وربما فرض نفسه على ديمقراطيات عريقة.