شوف تشوف

الرأي

نسخة جديدة من «الجزائر القديمة»

توفيق رباحي

بانتهاء الانتخابات النيابية في الجزائر تكون السلطة قد قطعت خطوة أخرى في طريق تكريس الأمر الواقع كما تراه هي وتريده، حتى لو أغضب ذلك قطاعا معتبرا من الجزائريين.
قد تهم نتائج انتخابات السبت الأفراد المرشحين وعائلاتهم وبعض التنظيمات الحزبية، من حيث الربح والخسارة والمغانم والمكاسب. لكنها على الصعيد العام لا تعني الكثير، لأن الجزائر، في نهاية المطاف، ستنتهي إلى برلمان آخر يشبه السابق والذي قبله والذي سبقهما. حتى لو تغيرت الوجوه جذريا لن يكون هناك تغيير في العمق، لأن مصيبة الجزائر في الممارسات والذهنيات السياسية ولم تكن يوما في الوجوه.
ما يهم أكثر أن النظام الحاكم لم يتعلم الدروس من الماضي القريب، فأعاد تكرار الممارسات ذاتها التي قادت إلى زلزال فبراير 2019 الذي أطاح بعرش المخلوع وعائلته وأصحابه. وما يهم أيضا أن الخارطة السياسية التي ستتكرس في «الجزائر الجديدة» هي نسخة من خارطة «الجزائر القديمة». لا يمكن للظروف السياسية التي جرت فيها انتخابات السبت الماضي إلا أن تقود إلى الماضي. كان الأمر واضحا ومقصودا من البداية وليس وليد صدفة. انتخابات السبت أريد لها أن تكون أكثر من مجرد اقتراع وانتهى كيفما كان، بل فرصة لتكريس تحالفات جديدة/ قديمة تبلورت أكثر بعد حراك 2019، على ضوء غربلة معينة أعادت تحديد المواقع، وعلى ضوئها المصالح.
مع الأسف، هذه الغربلة تقود الجزائر إلى المربع الأول.. إلى مشهد سياسي يعيد إنتاج مشاهد عاشها الجزائريون طيلة ربع القرن الماضي، ولم يجنوا منها سوى الخيبة والمرارة والإحباط.
لا يوجد في انتخابات السبت ما يوحي بأنها جرت في «الجزائر الجديدة». هناك دوران مستمر حول الذات، والجزائر أمام لغز.. إما أن المنظومة السياسية ككل أصيبت بعقم أفقدها القدرة على الوصول إلى وضع آخر مختلف (ليس بالضرورة أفضل)، أو أن هذه المنظومة ومَن فيها تمتلك قدرة فائقة على فرملة البلاد وإبقاء الأشياء مشلولة في مربعها الأول، رغم أنف الجميع. في الحالتين هي معضلة تثير الخوف صدقا على الجزائر.
«الحدث» يوم السبت يشبه كثيرا أمثاله في عهد المخلوع واليمين زروال. تشابهت الظروف التي جرى فيها، مع جرعة إضافية ملحوظة هذه المرة من الخطاب الانتخابي المبتذل وغلق وسائل الإعلام الحكومية، وحتى الخاصة والدولية، في وجه معارضي السلطة ودعاة مقاطعة الاقتراع. منذ ربع قرن، وفي كل انتخابات يجتهد النظام وواجهاته وأذرعه في خلق أجواء انتخابية شبيهة بأجواء الحرب. ويلجأ إلى الحجج ذاتها لتبرير الغلق وخنق الحريات، غير آبه بأن الزمن تغير وبأن الحجج التي كانت صالحة في نهاية التسعينيات لا تصلح بالضرورة في 2021. ويستعمل الأساليب نفسها للتضليل وإقصاء من يختلفون معه.
هناك أيضا إضافة أخرى تمثلت في كون اقتراع يوم السبت، علاوة على الغلق التام في وجه المعارضة، جرى وسط ترهيب عبرت عنه مضايقات واعتقالات لم تكن موجودة في عهد زروال والمخلوع. كان واضحا أن الهدف منها تكميم أصوات الوجوه المعارضة، وتحييدها ولو مؤقتا لتقليص «التشويش» على الانتخابات. وفعلا جرت الانتخابات في اتجاه إعلامي واحد كأن الجزائر والمنطقة خلت من الضمير الإعلامي.
إذًا، التاريخ يعيد نفسه، والنظام الجزائري يحتفظ بقدرة إغراء هائلة تجعله قادرا على جمع المتناقضات تحت مظلته. لقد جمع المخلوع في عهدته الأولى (1999/ 2004) الجميع في حكومة واحدة: علمانيون، إسلاميون، ديمقراطيون، وطنيون، حداثيون (علما أن كل هذه المفاهيم نسبية في الجزائر لأن لا أحد هو حقا ما يدعي). وتمكن من شراء ولاء الجميع بقليل من الفتات السياسي المتمثل في مناصب حكومية شكلية ضررها أكثر من نفعها.
وقبل ذلك تمكن النظام وواجهته المدنية ممثلة في الرئيس اليمين زروال من شراء تواطؤ الجميع أيضا، تحت مسوغات الخطر الأمني الداهم على الدولة والمؤامرة الخارجية وغير ذلك من شعارات، وأشركهم في مسعى سياسي وانتخابات معروفة النتائج سلفا ولا عاقل صدق أنها ديمقراطية ونزيهة. اليوم تبدو الجزائر قريبة أيضا من تلك السياقات، إذ نجح النظام مرة أخرى في أن يجمع من حوله الأضداد والمتناقضات. معسكر الانتخابات حاليا هو بالضرورة معسكر النظام. هذا المعسكر خليط يضم في طياته الإسلاميين، تنظيمات وشخصيات، يتهمها خصومها بأنها رجعية وظلامية، ويضم علمانيين، تنظيمات وأفراد، يصفون أنفسهم بالتقدميين والحداثيين.
في معسكر النظام اليوم، «الإسلامي» عبد القادر بن قرينة، مثلا، والكاتب الصحافي «العلماني الحداثي» كمال داود، وبينهما أطياف عجيبة.. كل وفق مسوغات اختارها ليبرر التحاقه بالموكب.. واحد تحت مبرر الخطر الخارجي، وآخر تحت داعي استيلاء حركة «رشاد» على الحراك، وثالث بزعم أن تيارا أمازيغيا يحاول تقسيم البلاد بتشجيع من فرنسا، ورابع بوَهم أن النظام تغير وأن البديل حاليا هو حامل مشعل «النوفمبرية الباديسية».. إلخ.
قريبا ستوزع الغنائم وينال هؤلاء أيضا نصيبهم المادي والمعنوي من الكعكة، بداعي أنهم ساهموا في إنقاذ الجزائر وحمايتها من «رشاد» و«الماك» وغيرهما من الأخطار الداخلية والخارجية.
بعد ذلك سينسون جميعا وبسرعة فائقة الانتخابات كفعل وقيمة، لأنها ستكون قد حققت لكل مبتغاه.. إلا الجزائر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى