شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

 نحو تحقيق السلام الداخلي

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

إن أعظم تحد يواجه الإنسان ليس الطبيعة التي تحيطه، بل هي في علاقته بأخيه الإنسان، فليس هناك شيء يهدد الإنسان أكثر من أخيه الإنسان الذي يعيش معه ويسكن جنبه ويشاركه المجتمع.

إن الطبيعة جميلة ورائعة ولا تخيف، وقد تكيف الإنسان معها منذ ملايين السنين. لا الزلازل ولا البراكين، لا موج البحر الهائج، ولا الرياح المزمجرة، لا ثقب الأوزون ولا البكتيريا، لا الثعابين ولا الفيروسات هي مصدر قلق وحزن وخطر مثل الإنسان لأخيه الإنسان. فالإنسان يفتك بالإنسان بأشرس من أنياب الذئاب وعض الأفاعي ولدغ العقارب، فهذا المخلوق الضعيف الهش الطري ينسف بالقذائف، ويحرق باللهب، ويمزق بالرصاص، ويقطع بأنصال الحديد التي لا تعرف الصدأ. ويقتل الإنسان أخاه الإنسان ليس من أجل التغذي بلحمه كما تفعل الحيوانات، بل للحقد الذي انفجر في الصدر، والكراهية التي استولت على منافذ الفهم، فلم ير إلا الدم حلا للمشكلة، وكان إلغاء الآخر هو أفضل الحلول وأسرعها. لذا أخطأت الداروينية الحديثة، حينما أرادت نقل قانون البقاء للأصلح وتطبيقه على (النوع الإنساني)، حيث يصبح الأصلح هنا هو السيئ مريض النفس، الذي لا يستطيع أن يقيم علاقة إنسانية (سلمية) مع أخيه الإنسان. مع هذا فإن الإنسان لا ينبت وينمو، بل ولا يصبح الإنسان إنسانا إلا من خلال تكوينه وصياغته ضمن مجتمع، فالإنسان يمثل معادلتين بيولوجية وثقافية.

هذه هي العقدة الجدلية التي تنتظر الحل؛ أن يرقى الإنسان بالمجتمع، ويرقى المجتمع بالإنسان. أن يخلص الإنسان للمجتمع، ويحافظ المجتمع على الفرد. أن يحمي الفرد المجتمع من القوارض الاجتماعية، وأن يسبغ المجتمع أمنه على الفرد. أن يعتز الفرد بالمجتمع الذي ينتمي إليه، ويتألق المجتمع بالدرر الفردية التي تشكل تركيبه. أن يصح الفرد بصلته بالمجتمع، ويتعافى المجتمع بأفراد نظيفين. أن يتحول المجتمع إلى ساحة تعاون وإيثار، وأن يحب الإنسان أخاه الإنسان. أن لا يشعر الفرد بالقرف والكره من محيطه، وأن ينشط المجتمع بنشاط الأفراد. أن يتصرف الفرد من خلال الشعور بالمسؤولية وحس الانتماء والمبادرة الفردية في الدفاع عن المجتمع وحمايته والموت دونه، وأن يشجع المجتمع الأفكار الجديدة والمبادرات المخلصة، وأن لا يقتلها في مهدها ويخنقها قبل أن ترى النور. هذا الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان لا يمكن تحويله أو إلغاؤه إلا بالسلام، والسلام هو رصيد داخلي؛ فالحروب تنشأ في الرؤوس قبل الفؤوس في ميادين القتال. وحتى يصل الإنسان إلى علاقة السلام لا بد له أولا من الوصول إلى حالة السلام داخل نفسه، وإنهاء حالة الجدل الداخلية هذه للوصول إلى السلام الداخلي هو أعظم تحد يواجه النوع الإنساني.

عندما كنت صغيرا ما زالت ذكرى منظر يروعني لرجل يضرب امرأته ضربا مبرحا بالعصا، وهي تستغيث وما من مغيث، وكان سؤال يلح عليَّ دون أن أجد جوابا واضحا له أمام مناظر الظلم الإنساني: لماذا لا ينسحب الفرد من المجتمع إلى غابة أو مكان ناءٍ سحيق، كي يخلص الإنسان من كل هذه المناظر المؤلمة والمرعبة؟

ولكن هل يستطيع الإنسان حقا أن يعيش لوحده في الغابة على الشكل الذي زينته قصة (حي بن يقظان)، أو (روبنسون كروزو)، أو مسلسل الأطفال (ماوكلي- الطفل الذئب)!

لقد اكتشفت ويعود الفضل الأكبر في ذلك إلى أفكار ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، ثم الأبحاث (الأنثروبولوجية) التي اطلعت عليها في ما بعد، بحيث شكلت لي ما يشبه الانقلاب الفكري في النظر إلى علاقة (الفرد- المجتمع)، ووصلت إلى الفكرة المبلورة التي تقول: إن المجتمع هو الذي يصنع الإنسان، فالإنسان في معادلته البيولوجية يأخذ الجينات من والديه، أما الثقافة فهذه يمتصها من المجتمع الذي يختزل له تجارب الجنس البشري ليحقنها إياه في سنوات عمره الأولى، فيقفز ومن خلال هذه الخبرة ليكتسب مقعده الجديد في سلم الوجود، حيث يمثل قمة ما أبدعته الحياة.

في عام 1799م قبل أن يختم القرن الثامن عشر بعام واحد وقعت حادثة مثيرة في فرنسا، أحدثت ضجة بين رجال الدين والفلاسفة، الأطباء والمربين، علماء الأخلاق والرومانسيين. وخلاصة هذه الحادثة هي الإمساك بصبي من غابة أفيرون (1) يبلغ من العمر حوالي 12 عاما، عليه سمات الوحشية، عاريا قذرا، له سلوك الحيوان، كريه الرائحة يثير الاشمئزاز، يقوم بحركات تشبه القرود وتنتفض عضلاته بتقلصات شرسة، يتأمل الناس من حوله بنظرات عدوانية لا تعرف الرحمة ويعض من يحاول الاقتراب منه، واحتاروا في أمره من أين جاء؟ هل ألقي في الغابة منذ صغره فعاش بين الحيوانات؟ وإذا كان كذلك فكيف عاش ومن الذي أطعمه، وأي حيوان أشفق عليه فأرضعه؟ قصته كانت وما زالت لغزا متروكا للتاريخ. إلا أن الإجماع كان أنه في أصله إنسان، ولكنه تربى في الغابة وصمد للمناخ الذي لا يرحم، وأكدت هذا دراسات أنثروبولوجية لاحقة (2)، كان هذا الغلام للبعض شاهدا على صحة ما ذهب إليه المفكر جان جاك روسو عن مزايا (المتوحش النبيل)، والدعوة إلى العودة إلى الطبيعة، وكان الطفل قوي البنية لا يعرف المرض عاريا، لا يعرف البرد! ورأى آخرون مدى الدرك الذي يمكن أن ينحط إليه ابن آدم، في حين رأى فريق ثالث والرعب يملأ قلوبهم طباع الإنسان البهيمة عارية من كل مجاملة أو تشذيب، وبدون أي مساحيق حضارية تجميلية. أما رجال الدين الفرنسيون فرأوا تجلي نعمة الله على ابن آدم بتربيته في المجتمع.

 

مراجع وهوامش:

(1) راجع بالتفصيل كتاب (بنو الإنسان)- تأليف بيتر فارب – ترجمة زهير الكرمي- سلسلة عالم المعرفة – الكويت – يوليوز 1983م- رمضان شوال 1403هـ (2) المصدر السابق نفسه – راجع تجربة الملك الصقلي فريدريك الثاني في القرن الثالث عشر الميلادي على الأطفال (تم وضع أطفال في عزلة عن تعلم أي لغة لاكتشاف اللغة التي سوف ينطقون بها، فكانت النتيجة لا لغة ولا مجتمع والموت لمعظمهم!)، ص: 12.

 

نافذة:

حتى يصل الإنسان إلى علاقة السلام لا بد له أولا من الوصول إلى حالة السلام داخل نفسه وإنهاء حالة الجدل الداخلية هذه للوصول إلى السلام الداخلي هو أعظم تحد يواجه النوع الإنساني

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى