ليس من باب الصدفة أن الملك اختار نهج الصرامة في التعاطي مع ملف الصحراء، وخصوصا مع التماطل الأممي والتآمر الجزائري، فالوضع اليوم لم يعد يحتمل التأخير، خصوصا في ظل تهديدات إرهابية متزايدة تنذر بتحويل منطقة الصحراء بين المغرب والجزائر إلى إمارة يتحكم فيها دمويون لا يؤمنون سوى بقطع الرؤوس.
إن وضعا مقلقا مثل هذا لا يجب التعامل معه بشيء آخر سوى الصرامة، لذلك لم يعد هناك مكان في الصحراء لبعثة المينورسو التي ثبت بالدليل القاطع أنها تحرض على الانفصال أكثر مما تقوم بدورها في حفظ الأمن، ولم يعد هناك مكان في المغرب لكريستوفر روس المبعوث الأممي خارج مقرات وزارة الخارجية بالرباط، مثلما لم يعد هناك مكان للتعامل مع تحريك الجزائر لسكين الانفصال في جرح الصحراء بالمحافل الدولية غير الاعتراف بحقوق سبعة ملايين من الشعب القبايلي في تقرير مصيره.
أما إسبانيا فعليها أن تعرف أن دورها ليس هو التفرج على ما يحدث، خصوصا وأن البرلمان الكطلاني صوت يوم الاثنين لصالح الانفصال عن إسبانيا بمعدل 72 صوتا من 135 صوتا، وهكذا أصبح قرار الانفصال سيبدأ سنة 2017 في أفق تشكيل جمهورية.
فالدور الذي يجب أن تلعبه إسبانيا في ملف الصحراء يجب أن يكون محوريا بحكم أن القضية برمتها تركة إسبانية فرنسية سطت عليها الجزائر من أجل وضع حجرة في حذاء المغرب.
ما يحدث اليوم في الصحراء يجب أن يجعل كل القوى المتدخلة في الملف تعيد حساباتها، خصوصا وأن الجزائر أصبحت بمثابة “الرجل المريض” في منطقة مغاربية تعيش كل دولها تفتتا داخليا، فيما يشكل المغرب استثناء على مستوى الاستقرار والنمو.
وعلينا أن ننتبه إلى أنه ولأول مرة يبادر مسؤولون رسميون في الجزائر، وعلى رأسهم وزيرة الثقافة السابقة خليدة التومي مسعودي، إلى تحرير رسالة موجهة إلى الرئيس بوتفليقة من أجل مقابلته شخصيا، فقد بدأت تتسرب إلى نفوس المقربين من الرئيس أن هذا الأخير أصبح رهينة بين أيدي شلة من العسكريين يقودون البلاد نحو الهاوية. حتى أن يومية “الحرية” شبهت ما يحدث في الجزائر اليوم للرئيس بوتفليقة بما حدث للرئيس التونسي بورقيبة الذي انتهى رهينة بين يدي بنعلي قبل أن يستولي هذا الأخير على الحكم بعد وفاته محولا البلاد إلى ما يشبه الضيعة العائلية.
ما يحدث في الجزائر مقلق للغاية، ومن المحتمل أن ينفجر الوضع في أية لحظة منذرا بأكثر السيناريوات درامية بالنسبة للمنطقة برمتها، ولذلك فمشروع بناء الجيش المغربي جدار عازل بين المغرب والجزائر طوله مائة كيلومتر له ما يبرره على أرض الواقع، ليس فقط لحماية المغرب من جيوش المهاجرين السريين الذين يسهل الجيش الجزائري مرورهم، بل أيضا تحسبا لوصول اللاجئين بعشرات الآلاف نحو الأقاليم الشرقية فيما إذا انفجر الوضع الأمني في الجزائر، لا قدر الله.
ولهذه الأسباب مجتمعة على أمريكا التي تقدم نفسها راعية لملف النزاع في الصحراء أن تفهم أن قصة الحب التي ظلت تعيشها مع الجزائر أصبحت تحتاج إعمالا لمنطق الواقع وليس فقط لمنطق الربح.
فما ظل يحرك الإدارة الأمريكية هو مصلحة الأمريكيين أولا وأخيرا، أما العواطف الجياشة وعبارات المودة والحب التي ظل يؤلفها السفراء الأمريكيون بالرباط منذ طوماس رايلي ومارغريت تيتويلير ومدام كابلان إلى داويث بوش الحالي، فهذا ليس سوى معجم مستهلك يجد تفسيره في البلاغة أكثر مما يجده في السياسة الأمريكية.
ولفهم العلاقة بين الأمريكيين والجزائر هناك أربعة أسماء يجب تذكرها جيدا، لعبت دورا حاسما في هذا العشق الأمريكي الجزائري المتبادل: «روبير أليسون»، «جيمسبيكر»، «ديك تشيني» و«بيني ستينميتز». وكل من خرج من صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة الأمريكية ووصل إلى البيت الأبيض لكي يحكم، عليه أن يستمع بخشوع إلى نصائح هؤلاء الأربعة الذين يملكون نفوذا قويا داخل مؤسسة الإدارة الأمريكية ودواليب اتخاذ القرار و«لوبيات» الضغط.
وليس سرا أن كل التقارير السرية حول الطاقة التي تصل إلى مكتب الرئيس الأمريكي تشدد على حماية وتقوية مصالح أمريكا مع الجزائر، وخصوصا على مستوى استيراد الغاز والبترول، اللذين يعتبران عصب الاقتصاد الأمريكي. فأمريكا هي الزبون الثالث عالميا للغاز والبترول الجزائري بعد إيطاليا وفرنسا، وهي من بين أكبر المستثمرين داخل الجزائر في حقول الطاقة. لنأخذ مثلا السيد «روبير أليسون»، فهو يهودي أمريكي يوجد على رأس شركة «أناداركو»، ويوجد على رأس مجموعة للتنقيب عن البترول في حقول الصحراء الجزائرية، وهو أيضا أحد الشخصيات المؤثرة داخل الإدارة الأمريكية. إنه لمن الغباء الاعتقاد بأن للجزائر وزارة للخارجية مثل تلك التي توجد لدى كل الدول العربية. فوزارة الخارجية الحقيقية للجزائر هي شركة «صوناتراك» للصناعات البترولية التي تتحكم فيها الدولة الجزائرية، أي جنرالاتها المثقلون بالنياشين وبالحسابات البنكية السمينة. وعائدات هذه الشركة العملاقة مخصصة، تقريبا بالكامل، للضغط على اقتصاديات الدول أو مقايضة مواقفها الجامدة من البوليساريو بمواقف أكثر ليونة.
سعادة السفير الأمريكي، الذي يتغزل في الصداقة الكبيرة التي تجمع أمريكا بالمغرب في الفوروم المغربي الأمريكي الذي عقده بمقر شركة كوكا كولا بأطلانطا بحضور السفير المغربي بأمريكا رشيد بوهلال جنب “نونورس” قطني كبير يحمل قنينة المشروب الأمريكي الشهير والمسؤول عن عدة أمراض، يعرف أكثر من غيره أن مواطنه «جيمس بيكر»، كاتب الدولة الأمريكي الأسبق، يحتفظ إلى اليوم بمنصب ككبير للمستشارين في شركة «صوناتراك» الجزائرية.
وليس هذا فحسب، بل لجيمس بيكر، بشراكة مع الشركة النرويجية «ستاتويل هيدرو»، خط مباشر لبيع منتجات الشركة الغازية في السوق الأمريكية ولمدة عشرين سنة، خصوصا في الشرق الأمريكي حيث يكثر الطلب على الغاز الطبيعي.
إننا نسمع اليوم كيف يعتذر الرئيس البريطاني السابق طوني بلير عن خوض حرب العراق، فيما يتهم بوش الأب كلا من رامسفيلد وديك تشيني بجر ابنه جورج بوش الإبن نحو حرب العراق، ومن يدري فغدا قد نسمع كريستوفر روس وهو يعترف بأسماء من كانوا يدفعونه للتورط في مواقف معادية للمغرب.
قصة الحب العاصف بين الأمريكيين والجزائريين لا تقف عند هذا الحد، بل ستتوطد عراها سنة 1997 عندما سينشئ العشيقان شركة اسمها «صوناتراك بيتروليوم كوربورايشن»، وهي شركة أمريكية مقرها «ديلاوار» بالولايات المتحدة الأمريكية. الآن وبفضل هذا الذراع الاقتصادي الضارب، أصبحت «صوناتراك» الجزائرية تمتلك 16 مليون حصة من المجموعة الطاقية الأخطبوطية الأمريكية «ديك إنيرجي» المتواجدة بكارولينا الشمالية.
ولا تكتفي «صوناتراك» بهذه الشراكة الأمريكية المربحة، بل تمتد أذرعها لكي تمتلك 51 في المائة من شركة «براون أند روث كوندور»، وهي شركة بترولية تمتلك فيها شركة «هاليبيرتون» 49 في المائة من الأسهم. وهذه الشركة، ويا للمصادفة العجيبة، يوجد ضمن لائحة المساهمين فيها اسم «ديك تشيني»، نائب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، كما يشغل فيها «جيمس بيكر»، المبعوث الخاص السابق للأمين العام للأمم المتحدة في الصحراء، منصب مسير إداري.
هل رأيتم الآن كيف تختلط رائحة البترول برائحة الطبخة الأمريكية لملف الصحراء.
وإذا كانت اتفاقية التبادل الحر التي وقعها المغرب مع الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعتبر كل بنودها في صالح الأمريكيين أكثر مما هي في صالح الاقتصاد المغربي، فإن كل السفراء الأمريكيين في الجزائر منذ «كاميون هوم» إلى السفير الحالي «دافيد بيرس» ظلوا يبشرون بغزو الشركات الأمريكية للسوق الجزائرية (كوكاكولا، إ.ب.إم، هوني ويل، جينرال إليكتريك، لوسن تيكنولوجي…)، مستغلين اتجاه الجزائر نحو اقتصاد السوق، كما أنا هناك تشجيعا آخر تقوده شركات صناعة الأسلحة لإقناع الجنرالات باقتناء الأسلحة الأمريكية المتطورة. وهكذا، أبرمت الحكومة الجزائرية صفقات ضخمة منذ التسعينيات لاقتناء أسلحة وطائرات أمريكية تكلفت الحكومة الأمريكية بتدريب الجنود الجزائريين على استعمالها.
طبعا، كل هذه التفاصيل يعرفها «كريستوفر روس»، المبعوث الأمريكي في ملف الصحراء، والذي يرعى المفاوضات اليوم بين المغرب والبوليساريو.
ألم يكن سعادته سفيرا للولايات المتحدة الأمريكية في الجزائر خلال هذه الفترة التي نسجت فيها واشنطن والجزائر تفاصيل قصة هذا الحب العابر للقارات؟