مُهربو الكيف ساعدوني على التسلل إلى المنطقة الخليفية وهكذا صرتُ في ضيافة الطريس
صفحات كتاب حياة في ظِلّ ملِكين للمقاوم المختار الزنفري

يونس جنوحي
العملية الأخيرة
قبل الرحيل إلى تطوان، كان لا بد أن أعرج أولا على عملية أخيرة كنا قد خططنا لها أواخر سنة 1953. أعتقد أنها كانت في أواخر أيام شهر نونبر، قبل الإعداد لاحتفالات رأس السنة بأسابيع. كانت نيتنا أن ننفذ سلسلة تفجيرات، بزرع القنابل في أماكن متفرقة، تزامنا مع احتفالات رأس السنة.
فكرنا في استغلال مناسبة يُحييها الفرنسيون في مدينة الجديدة، حيث كانوا يحتفلون بتناول أطباق من «المحار» وفواكه البحر. وكان لدي قريب لي، وهو ابن عمتي، يمتلك شاحنة لنقل البضائع، وتعوّد سنويا على نقل المحار إلى السوق في ذلك الوقت من السنة.
اقترحتُ عليه أن أرافقه إلى الوليدية، بل وقلتُ له إنني سوف أدفع تكاليف البنزين. في الوليدية كان دأبه اقتناء كميات من «Les Huîtres». لم أخبره بما كنتُ أخطط له، حتى يبقى بعيدا عن المشاكل.
طلبتُ من الناس الذين يتعامل قريبي معهم، أن يجهزوا لنا عشرة صناديق من فواكه البحر، ويتركوا بقية الصناديق فارغة، حتى يتسنى لي نقل «شُحنة» خاصة، داخل الصناديق المُتبقية، بعيدا عن الشبهات والتفتيش.
الشحنة التي كنا نريد نقلها، كانت جاهزة في براميل بالدار البيضاء. وتتألف من كميات من الحديد والبارود، لتحضير القنابل. لا زلتُ أتذكر أن الرجل الذي ابتعنا من عنده البراميل، كان يعمل في أحد محلات الخُردة، وسألني عن الغرض من وراء شراء البراميل الضخمة، وقلتُ له إننا نعمل في مجال البناء ونحتاجها لهذا الغرض.
عندما كنتُ أحضر لنقل البراميل، استعدادا لصنع القنابل، طلبتُ من قريبي أن يوصلني بشاحنته إلى الفرن داخل الكاريان. لكني فوجئتُ، عندما وصلتُ إلى هناك، بأن البحث جار عني، دون علمي.
لحسن حظي أن اثنين من الشباب لمحاني وأنا أتجه صوب «البرّاكة» والفرن، ونصحاني بالفرار، وهما اللذان أخبراني أن البوليس جاؤوا لاعتقالي وأنهم يتربصون بي أمام الفرن.
اتجهتُ مباشرة صوب منزل عمتي، وكانت رحمها الله تسكن في منطقة درب الكبير. هناك علمتُ منها أن البوليس جاؤوا من مدينة الجديدة إلى منزلها بحثا عني.
غادرتُ منزلها فورا واتجهتُ رأسا إلى دار المقاوم إبراهيم الروداني.
الهروب عبر الشمال..
جلستُ أمام ابراهيم الروداني، رحمه الله، وكانت لديه مصادر في الأمن و»البوليس» وكانت لديه أيضا طرقه في الحصول على المعلومات التي تجعل المقاومة دائما تسبق البوليس الفرنسي بخطوة.. قُلت له:
-»Mon Père»..
وكانت تلك العبارة التي نناديه بها دائما. والحقيقة أنه كان فعلا أبا لنا، وعرّابا للمقاومة. هذه هي الحقيقة.
أخبرتُه بما وقع. قلتُ له إن البوليس اعتقلوا أخي الذي كان يصغرني وأنني نجوت للتو من كمين لاعتقالي في قلب الكاريان.
فقال لي رحمه الله، وعلى الفور:
-»سوف تذهب إلى الشمال. إلى تطوان، عند دار الطريس. وسوف تجد فيها كلا من عبد الكبير الفاسي، وأحمد زياد -صاحبك- وابق هناك».
خرجتُ من دار الروداني، واتجهتُ صوب محطة الحافلات. ركبتُ حافلة لنقل المسافرين، قالوا لي إنها متجهة إلى منطقة «المعيزيين»، ولا تبعد كثيرا عن وزان. ركبتُ دون تفكير، ولم أكن على كل حال أعرف الكثير عن مناطق البلاد في ذلك الوقت المبكر من حياتي.
عندما وصلنا بعد شروق الشمس بفترة، وكنت قد قضيت ليلة كاملة بدون نوم نهائيا، صار هاجسي الأول أن أجد مكانا أرتاح فيه وأسكت جوعي. سألت عن مكان فقيه القرية، وطلبتُ منه أن يستضيفني لأرتاح، واقترح عليّ أن أبقى بصحبته إلى أن يأتوا له بطعام الغداء ونأكل سويا. وقلتُ له، مموها، إنني أبحث عن جامع لكي أستقر فيه.
عندما انصرفتُ من عنده، تجولت في المنطقة قليلا، ولفت انتباهي وجود رعاة الأغنام في الضواحي. كان هدفي أن أجتاز المنطقة الحدودية بين النفوذ الفرنسي والإسباني، دون مشاكل.
وجدتُ بعض الشبان ينقلون أكياس «الكيف» فوق ظهور البغال والحمير، ويسيرون بها بمحاذاة المنطقة الحدودية تماما. سألني أحدهم إن كنتُ أحتاج الأكل. وتقاسم معي طعامه، وكان عبارة عن قطعة كبيرة من الخبز المحلي وبعض الزبدة. ثم سألني إن كنت أحتاج المال.
أخبرتُه أنني أتوفر على مبلغ 150 درهما. وقال لي إنها لن تكفيني. لمَ؟.. كان يُلمح إلى ارتفاع تكلفة «تهريبي» عبر طرق تهريبهم لـ»الكيف»، لكي أعبر للمنطقة الخليفية. لكنه في الحقيقة، رفقة من معه أبانوا عن حس إنساني، وأخذوني معهم في رحلة التهريب التي انطلقت ليلا.
قلتُ له إنني كنت أنوي التوجه إلى مدينة القْصر الكبير. ولأنني مطلوب لدى البوليس، ليس ممكنا طبعا أن أتوجه إلى نقطة المراقبة الحدودية للعبور.
لم أكن أعرف من المدينة إلا الاسم. إذ لم تسبق لي زيارتها نهائيا، لكني كنت أعرف أن نقطة العبور الحدودية بين منطقتي النفوذ، الخليفية الإسبانية، والفرنسية، توجد هناك.
اصطحبوني معهم ليلا، وكنت أستغرب كيف كانوا يتعرفون على الطريق، وعلى بعضهم البعض وسط ذلك الظلام الدامس. بل إن الدواب كانت تعرف بعضها أيضا.
قبّلتُ الأرض وهربتُ..
لم أكن أتصور أن الرحلة سوف تكون بهذه الخطورة. تنفستُ الصعداء بعد أن تأكد لي أننا عبرنا بسلام إلى المنطقة الخليفية. تلقى الرجال الذين كنت برفقتهم إشارة ضوئية من مكان ما. وفهمت أن أحدا كان في انتظارهم.
ما أن تأكد لي أننا فعلا عبرنا. حتى سقطتُ على ركبتيّ. وفي حركة تلقائية، قبّلتُ الأرض، ثم نهضت من مكاني، وهربتُ وسط الظلام الدامس. وحيدا.
قبل أن أصل مدينة القصر الكبير، وجدتُ أمامي واديا، وطويت سروالي، وقررت أن أعبر. كنت أتابع بعيني الأضواء التي تلوح لي من بعيد. وعندما وصلتُ إلى القصر الكبير، وجدت «فْندق»، ورآني الحارس، وأشخاص آخرون كانوا هناك، على تلك الحال.. ملابسي مبتلة، والتعب بلغ مني مبلغا كبيرا، وكانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحا.
أحضروا لي ثيابا نظيفة على الفور. والغريب أن تلك الملابس كانت على مقاسي تماما، وكأنها خيطت من أجلي شخصيا!
طلبوا مني أن أجلس أمام المدفأة، فقد كان الجو باردا جدا، وأحضروا لي الطعام.
سألوني:
-هل أتيت من La zona Francesa (يقصدون المنطقة الفرنسية)؟
لم يسألوني نهائيا عن سبب سفري ولا عن أي تفاصيل أخرى. سألوني فقط عن وجهتي، فقلتُ لهم إنني ذاهب إلى تطوان.
في الصباح، سألتُ عن تكلفة المبيت في ذلك «الفْندق»، لكنهم رفضوا تماما أخذ مقابل مادي مني.
أخبروني أن أسأل عن حافلة اسمها «بالينسيا»، وقالوا لي إنها تنقل المسافرين. وكانت الوجهة التي نقلتني إليها الحافلة، مدينة العرائش.
قضيت بضع ساعات في المدينة، إلى أن جاءت الحافلة التي سوف تُقلني إلى تطوان. صعدتُ، ووجدت شابا جالسا في مقعد، والمقعد الذي بجانبه شاغر، فجلستُ.
سألتُه:
-الله يخليك.. هل أنت ذاهب إلى تطوان؟
-نعم.
-هل تعرف دار الطريس؟
-نعم.
-هل بإمكانك أن تُرشدني إليها عندما نصل إلى هناك؟
وافق على اصطحابي، وكان شابا طيبا.
من يكون هذا الشاب؟ إنه محمد بنعيسى، الذي أصبح لاحقا وزيرا للخارجية وأحد أشهر الأسماء في السلك الدبلوماسي. كان وقتها لا يزال طالبا يدرس في تطوان. وفعلا اصطحبني بنفسه إلى دار الطريس.
في ضيافة الطريس
لم أكن أعرف وقتها معلومات كافية عن هذا الزعيم الوطني، عبد الخالق الطريس.. الذي عشتُ معه أمجاد حزب الإصلاح الوطني -حزب الإصلاح الوطني أسسه عبد الخالق الطريس سنة 1936 في تطوان، قبل أن «يذوب» في مارس 1956 في حزب الاستقلال ويُنسى كأنه لم يكن- الذي كان مؤسسَه، وزعيمه.
انتظرتُ إلى أن استقبلني، وقلتُ له إن المعلومة التي لدي تفيد بأنني سوف أجد عندك كلا من عبد الكبير الفاسي -الكاتب والمثقف والدبلوماسي-، والصحافي أحمد زياد.
فأجابني:
-»كاين.. دير واحد الهزيزة وآجي».
لم أكن أعرف مقدار «الهزيزة» التي كان يقصد سي الطريس. وقد كانت تلك حالتي في الأشهر الأولى التي وصلتُ فيها إلى تطوان. إذ لم أكن أعرف معنى عدد كبير من مفردات اللهجة الشمالية.
عندما عدتُ، بعد جولة في ساحة الفدان، وجدتُ الطريس يتناول طعام العشاء، وبرفقته عبد الكبير الفاسي وأحمد زياد.
زياد كان يعرفني، بحكم علاقتي الوطيدة به في «الكاريان» بالدار البيضاء. أما عبد الكبير الفاسي فلم يكن يعرفني، لكن لقاء تطوان، كان بداية لاتصال طيب معه، وأحتفظ له ولحرمه، بذكريات طيبة، عندما انتقل إلى مدريد.
بعد الاطمئنان على أحوالي، وبعد جلسة ودية حكيتُ خلالها لهم فيها ما وقع بالضبط، وكيف صرتُ مطلوبا من طرف البوليس، وما مررت به في رحلتي، توجهنا إلى «جنان» يملكه سي الطريس في طريق سبتة. واستقررتُ هناك.
ومن ذلك الجنان، بالإضافة إلى دار الطريس في قلب تطوان، انطلقت مغامرتي في المنطقة الخليفية، وكان أول ما يتعين عليّ القيام به، تدبر طريقة لكسب لقمة العيش. وهنا سوف يتدخل سي علال الفاسي رحمه الله، إذ اقترح على الإخوان أن أفتح محلا للتصوير.. وتلك قصة أخرى.
أصبحتُ رسميا ثالث شخص يأتي إلى تطوان في ضيافة الطريس، من المقاومين وأعضاء حزب الاستقلال. وسوف تطول اللائحة، إلى أن تصبح تطوان الملجأ الأول للمبحوث عنهم، وطالت مُدة اللجوء إلى ما بعد عودة السلطان سيدي محمد بن يوسف من المنفى يوم 16 نونبر 1955، واستقلال المغرب. إذ أن أغلبنا بقوا في تطوان إلى منتصف سنة 1956.