ميادين البحث العلمي الملغومة
المعطي قبال
منذ 7 أشهر وعالمة الأنثروبولوجيا الفرنسية ذات الأصول الإيرانية، فاريبا عادلخاه، تقبع في سجن إيفين بطهران. وقد اعتقلتها السلطات الإيرانية وبالتحديد الحرس الثوري صحبة رفيقها الباحث رولان مارشال بحجة قيامهما بالتجسس لصالح قوى أجنبية! وقد تجندت لإطلاق سراحها العديد من المنظمات الحقوقية الدولية التي اعتبرت اعتقال باحثة متميزة في مجال الأنثروبولوجيا مسخرة وتخويفا للباحثين الميدانيين. كما أن الغاية من هذا الاعتقال هو الضغط على فرنسا. كما تدخلت السلطات الفرنسية الرسمية ممثلة في كل من وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان والرئيس ماكرون، للمطالبة بإطلاق سراح السجينين. كما تجندت أسرة البحث العلمي في فرنسا للمطالبة بإطلاق سراح الباحثين، اللذين اعتبرتهما ضحية «اعتقال علمي». وكانت مفاوضات الكواليس قد بدأت قبل أن يأتي اغتيال الجنرال قاسم السليماني ليلغي بالكامل المشاورات ويعلق ملف السجينين إلى أجل غير مسمى اللهم إلا إذا قايض النظام الإيراني السجناء بدعم فرنسا للموقف الإيراني في المحافل الدولية وهو شيء مستبعد جدا.
لكن خلف الأبعاد السياسية الضمنية لهذه القضية هناك أبعاد علمية يلخصها السؤال التالي: أية حرية بل وأية هوامش للبحث العلمي في المجال الجيو-سياسي لبلدان الشرق الأوسط؟ اليوم في المجتمعات العربية -الإسلامية، التي هي بامتياز مسرح للتجاذب والعنف، لم يعد بالإمكان للباحث في ميدان الأنثروبولوجيا، السوسيولوجيا، الإحصائيات، الإثنولوجيا وغيرها من فروع البحث أن يمارس أبحاثه الميدانية في عين المكان، إلى درجة أن بلدانا مثل سوريا، اليمن، السودان، مصر، ليبيا، العراق، إيران الخ… تحولت إلى مواقع ملغومة إما يلقى فيها الباحث حتفه، يختطف أو يعتقل من طرف السلطات التي لا تنظر بعين الترحاب للبحث الميداني وللباحثين. أما دول المغرب العربي فتبقي هامشا ضيقا جدا.
ويعد الباحثون الذين تسللوا إلى بعض البلدان العربية-الإسلامية الساخنة على رؤوس الأصابع. نذكر من بينهم فاريبا عادلخاه، والأسترالية كيلي مور جيلبير التي توجد رهن الاعتقال بطهران، وجان بيار فيليو الذي دخل الجزائر مؤخرا بطريقة سرية في عز الحراك الشعبي لتتبع وقائع هذا الحدث ونقل وقائعه في كتاب بعنوان «الجزائر، الاستقلال الجديد»، صدر عن منشورات سوي. وهو تحقيق يجمع ما بين التحليل التاريخي والمعاينة الميدانية. وتجدر الإشارة إلى أن جان-بيار فيليو، أستاذ للعلوم السياسية ومتخصص في قضايا الشرق الأوسط، وسبق له أن عمل ديبلوماسيا بدمشق. وفي سفرته للجزائر حظي طبعا بالحماية الديبلوماسية.
قد يتساءل البعض: لماذا لا يعوض الباحثون العرب والمسلمون هذا الخصاص في البحث الميداني لمقاربة ودراسة بلدانهم؟ لماذا لا يستغلون الفرصة للاحتكاك بأرضية الميدان لإنتاج أبحاث أنثروبولوجية، سوسيولوجية، تاريخية، إثنولوجية وإحصائية تجعل من دراساتهم مراجع في هذا الميدان؟ للجواب عن هذا السؤال يكفي النظر إلى حال الجامعات وأحوال الباحثين، التي يطبعها البؤس، تدني المستوى، غياب الشفافية الأكاديمية دوليا لأغلب الباحثين بل وحتى غيابهم محليا الخ…
انقطاع الباحثين عن ميادين البحث كان له انعكاسات جد سلبية على جودة ومستوى البحث والدراسة. يتجلى ذلك في الإصدارات التي تناولت البلدان التي كانت مسرحا لما سمي «الربيع العربي». فأغلب الدراسات تم تحديثها أو تسخينها انطلاقا من أخبار صحفية عن هذا البلد أو ذاك. فيما تحول بعض الباحثين إلى خبراء استئصاليين يطعمون بالمعلومات والتوصيات وكالات الاستخبار الأوروبية والأمريكية. لذا فإن العديد من الكتب اليوم عن بعض المجتمعات العربية لا تعدو كونها تخمينات ومزايدات مفصولة عن المعاينات المادية. أما الذين يغامرون بالنزول إلى أرضية الواقع، فمأواهم ومآلهم السجن.