شوف تشوف

الرئيسيةرياضةفسحة الصيف

من حارس لمرمى الوداد إلى حكم دولي ومحاضر وسفير للتحكيم المغربي في لبنان

قضاة الملاعب عبد العزيز بلفتوح (حكم دولي سابق)

في رصده لمسار الحكم الدولي عبد العزيز بلفتوح، كتب الكاتب الصحافي يونس الخراشي:

«بحكم فهمه الكبير للعبة، وكواليسها وخصوصياتها، فضلا عن أنه كان معروفا في الوسط الرياضي الكروي، فقد تسلق الراحل بلفتوح الدرجات، ليصبح حكما فدراليا سنة 1991، ثم حكما دوليا ذائع الصيت بالمغرب، وحتى خارجه، بداية من 1995. وأسندت له إدارة مباريات صعبة في البطولة الوطنية، ومسابقة كأس العرش، فضلا عن مباريات كبيرة خارج أرض الوطن، بل إنه مثل المغرب، لمدة شهر، في الدوري اللبناني، في إطار التعاون بين الجامعة الملكية المغربية والاتحاد اللبناني لكرة القدم».

 

اجتمع فيه ما تفرق في غيره

يعتقد كثير من متتبعي الكرة المغربية بأن عبد العزيز بلفتوح مجرد حكم قضى فترة في الملاعب الرياضية ثم اعتزل، لكن المقربين من الرجل يحدثونك عن بلفتوح المثقف والمحاضر والإطار البنكي العارف بتقلبات الأحوال الاقتصادية. بينما قدماء الوداد الرياضي، من جيل السبعينات بالخصوص، يكشفون لك عن بلفتوح حارس المرمى الذي جاور نجوم الوداد في عز مجده الكروي حين تنافس على المرمى مع عبد القادر وياشين قبل أن يتم التعاقد مع بادو الزاكي.

لم تكن علاقة بلفتوح بالكرة عبر الصفارة بل كانت بالقفازات أيضا، إذ كان حارسا أيضا للمنتخب الوطني للشبان وشارك في دورات دولية خاصة في فرنسا، ويشهد جمهور زمان عن تألقه في مباراة رفع الستار للمنتخب الوطني الأول وكانت ضد المنتخب السينغالي.

كان من الصعب على لاعب ناشئ أن يوفق بين الدراسة والكرة، لذا كان يقتص من حصصه الدراسية لتلبية رغبة بلفتوح الرياضي وينتزع من حصص الكرة تلبية لنداء العقل، قبل أن يتخذ القرار الحاسم ويقرر الاستمرار في مساره الدراسي الجامعي.

يعرف أبناء فاس أن صديقهم عبد العزيز المولود سنة 1955 عاش في دار للعلم والثقافة وأن الرهان على التعليم كان يفوق كل الرهانات. يكفي أن نعرف أن شقيقه محمد يعد من أقدم الأقلام الرياضية في جريدة «العلم» بعد أن تمكن من التوفيق بين مهنة التدريس ومهنة المتاعب. كل الذين عايشوا عبد العزيز لاعبا للكرة، وبنكيا، وحاملا لراية الشرط، وحكم ساحة، يعرفون أنه كان أديبا ومحدثا بارعا وخصما لا يتنازل عن رأيه، مهما كلفه من رسوم.

يقول أصدقاؤه في البنك إنه كان حريصا على ضبط مواعده. وقال عنه كثير من لاعبي الوداد الذين جاوروه في الفريق إنه ظل عنوانا للانضباط، يضبط ساعته على مواعد الحصص التدريبية، وقال رفاقه في قطاع التحكيم إن عبد العزيز يدين بالولاء للمواد القانونية وللعداد الذي بين يديه.

كثير من الحكام جمعوا بين التحكيم والاشتغال في القطاع البنكي يعرفون أن الوظيفة تحتاج لمن يضبط وقته على عامل الانضباط، لهذا نجح كثير من الحكام البنكيين في مسارهم التحكيمي وتمكنوا من الجمع بين المعاملات البنكية والمعاملات الزجرية على رقعة الملعب، بل إن عبد العزيز بلفتوح، الذي كان إطارا بنكيا، تسلق سلالم المراتب إلى أن صار مديرا. إلا أن انشغالاته لم تمنعه من تخصيص جزء من وقته لقراءة أمهات الكتب، وكان يعد مشروع أديب يجد متعة في كتابة خواطر جميلة، حسب صديقه وابن مدينته وزميله، محمد الموجه: «قرأت خواطره مرارا، كانت رائعة للغاية، عربيته الفصيحة لا يعلى عليها».

 

بلفتوح يطل على الجمهور بزي التحكيم

اعتقد كثير من الوداديين بأن الحارس الواعد سيخلف يوما الحارس أحمد في مرمى الوداد، لكنهم اكتشفوا، ودون سابق إشعار، أن عبد العزيز غير مساره واستبدل القفازين بصفارة، بعد أن مارست عليه اللجنة الجهوية للتحكيم بفاس جاذبيتها وأصبح عنصرا أساسيا في تشكيلة حكام فاس الذين شكلوا نخبة من قضاة ملاعب المغرب، على غرار السطالي وبلفتوح، وجقاوة ومحمد باحو، شقيقه حميد ومن تلاهم من جيل طموح مكون من المعزوزي وبلوط والموجه واللائحة طويلة..

غير أن طموح الراحل بلفتوح سيذهب به إلى أبعد من مجرد لعب كرة القدم، ليصبح، وهو ابن 22 عاما فقط، حكما من الطراز الرفيع. ورغم أنه بدأ، من حيث يتعين، حكما متجولا، ثم حكما مساعدا، في ثلاثيات بارزة، مثل ثلاثيات الحكم الراحل، والرائد أيضا، محمد باحو، إلا أنه سرعان ما سيحمل الصافرة ليصبح واحدا من خيرة حكام الكرة المغربية.

بالرغم من أصوله الفاسية وانتمائه للوداد البيضاوي، إلا أن صفارته كانت محايدة لا تعترف باللونين الأصفر والأحمر، بل إن الفاسيين عاتبوه بسبب حياده في أكثر من مرة، كان رده بليغا: «حين يكون المغرب الفاسي طرفا أحرص على وضع قلبي في حقيبتي بغرفة تغيير الملابس وأدخل أرضية الملعب بجسد يحمل عقلا لا قلبا».

ينطبق القول الحكيم لبلفتوح على الوداد البيضاوي، الذي لطالما اشتكى مسؤولوه من الحياد الصارم للحكم عبد العزيز حين كان يقود مباريات الفريق الأحمر. أحيانا كان يردد لازمته الشهيرة: «كماراد أبري» في إشارة إلى فصل الصداقة عن المهنة.

يحتفظ الحكم بلفتوح بذكريات جميلة خلال مساره التحكيمي الدولي بالخصوص، فهو يتذكر انتدابه من طرف الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم من أجل قيادة مجموعة من المباريات القوية في الدوري اللبناني، على غرار مواجهات الأنصار والنجمة، والعهد والصفاء، كما أشرف على تكوين الحكام اللبنانيين، وتشهد حيطان مقر الاتحاد اللبناني بصور تؤرخ لتاريخ الكرة في هذا البلد العربي، ويظهر في بعضها حكمنا المغربي وهو يمثل بلدنا خير تمثيل.

 

بعد الاعتزال.. مراقب ومحاضر ومحلل

حين أنهى مساره التحكيمي قرر بلفتوح وضع خبراته وتجاربه رهن إشارة الجيل الجديد من الحكام، وكأي حكم يجر خلفه تجربة كبيرة، ومواقف جريئة، فضلا عن السمعة، حمل عبد العزيز وزر المسؤولية، ليصبح مراقبا للحكام موجها لهم متابعا لخطواتهم في درب التحكيم، ودخل غرفة القرار على المستويين الجهوي والوطني، كما أصبح عضوا في لجنة التحكيم. ومن هذه المواقع قدم الرجل للتحكيم المغربي خدمات جليلة ومعه تلقى الحكام الجدد دروسا في القدرة على الجمع بين الصرامة والليونة وحين تدبير البطائق. فقد كان يقول لتلاميذه الحكام:

«الحكم الناجح ليس هو الثائر في وجه اللاعبين، بل هو القادر على تدبير الخلاف بين فريقين وقيادة المباراة إلى بر الأمان على قارب القانون».

اشتهر الرجل بتنشيط فقرات برنامج «الحكم الآخر»، الذي كان برنامجا تلفزيونيا تبثه قناة «الرياضية» المغربية، تحت إدارة الإعلامي يسري المراكشي، وبإشراف من زميله كمال الإدريسي، كان بلفتوح يطل على الجمهور رفقة نور الدين طلال، قبل أن يصبح التحليل التحكيمي اختصاصا فاسيا مع الخبير محمد الموجه. كان بلفتوح يتوقف عند الحالات التحكيمية ويشرحها بالتفصيل للمشاهد وأحيانا بطريقة ممتعة ومسلية ومقنعة، لذا كان كثير من الحكام الصاعدين يجعلون البرنامج تمرينا لهم.

لكن الرجل سيغيب عن استوديو التحليل بقناة «الرياضية»، سينسحب في صمت دون أن يكشف عن سر المغادرة الطوعية، وهو الذي ترك بصمات واضحة على البرنامج الذي كان بمثابة «الفار» المسائي للحكام، عوضه زميله جرير الذي تسلم المشعل. ساد الاعتقاد في الوسط الرياضي بأن رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، فوزي لقجع، تدخل شخصيا لدى مدير القناة حسن بوطبسيل وطالبه بإلغاء البرنامج بداعي أن الوضع الكروي القائم لا يحتمل مثل هذا النوع من النقاش في الوقت الراهن، وأن صورة التحكيم المغربي تهتز بسبب «الحكم الآخر». وسيطول الإلغاء برنامجا للتحكيم على «راديو مارس» حتى يتسنى للحكام نشر غسيلهم في سطح المديرية المركزية للتحكيم لا في سطوح الإعلام.

ظلت وفاة برنامج التحليل التحكيمي تؤرق بلفتوح، الذي ابتلع ريقه ورفض الكشف عن دواعي مسحه من المشهد الإعلامي المرئي، فضل السكوت كي لا يكشف عورات رفاق دربه في قطاع التحكيم، كان يعرف أن القائمين على التحكيم المغربي لا يريدون صوتا يجهر بالحقيقة، لذا وضع عبد العزيز في ثلاجة الكرة فعانى من ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة من السيف المهند.

قضى أيامه الأخيرة في مواجهة المرض، صارع من أجل البقاء لكن البقاء لله الواحد القهار، وبالرغم من مرضه كان يواسي المرضى ويحرص على عيادتهم، بل إنه ظل يواسي شقيقه الصحافي محمد بلفتوح في وفاة زوجته رغم أن عبد العزيز ومحمد كانا معا أسيري فراش المرض.

وحظي الحكم الدولي السابق عبد العزيز بلفتوح، خلال الفترة الصعبة التي كان يمر منها، بدعم ومواكبة من مؤسسة محمد السادس للأبطال الرياضيين، ورفاق دربه الذين كانوا سندا له. وبالرغم من غصة القلب التي حملها الراحل في دواخله، فقد مات دون أن تحظر جنازته مكونات المديرية المركزية للتحكيم وكأن الفقيد كان في حالة تسلل.

ففي الساعات الأولى من صباح يوم الثلاثاء 23 نونبر 2021، تلقى المجتمع الرياضي المغربي خبر وفاة الحكم الدولي السابق عبد العزيز بلفتوح، بعد صراع طويل مع المرض. لقد خاض الرجل معركة قاسية مع مرض السرطان على مستوى الدماغ، حيث خضع في السابق لأكثر من عملية جراحية بإحدى مصحات مدينة فاس.

في جنازته قال قريبه الإعلامي يسري المراكشي: «الموت امتحان وتمرين في درس الوفاء، غاب زملاء بلفتوح عن مراسم دفنه، لم يودعوه ولو بالمشي وراء جثمانه، لكنهم يعلمون جيدا أن الفقيد كان لا يخشى في قول كلمة حق لومة لائم، كان يقول لا حين يكون مقتنعا بجدوى الرفض، عاش كريما ومات كريما».

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى