«من الخيمة خرج مايل»
ذهب وفد مغربي إلى الجزائر لمشاركتها أول احتفالات رسمية وشعبية، في مناسبة نيل البلاد استقلالها.. لكنه اضطر إلى مقاطعة وقائع الاحتفال ومغادرة العاصمة الجزائرية، على متن أول طائرة متوجهة إلى المغرب.
رأى وسمع ما لم يكن يتوقعه، ولم تنفع محاولات ثنيه عن اتخاذ ذلك الموقف في التخفيف من وطأة الوقع الصادم لما قام به مسؤولون جزائريون، توسم فيهم الوفاء لمبادئ الأخوة والتضامن. فقد التفت رئيس الوفد المغربي، الدكتور عبد الكريم الخطيب، إلى رفاقه إلى الاحتفال وقال لهم: «لا تنسوا المثل المغربي القائل: من الخيمة خرج مايل»، وفي معناه البسيط أن شخصا سقط في العثرة الأولى بعد مغادرته جمعا، فعلق أحدهم بترديد أن علامات السقوط بدت عليه منذ الخطوة ما قبل المشي.
كانت المرة الأولى التي يقع فيها ذلك الحدث الدبلوماسي العارض، خارج أخلاقيات الاحترام والاعتراف بالجميل. ثم تكررت نسخ منها على امتداد فترات العلاقات الحذرة والمضطربة بين البلدين الجارين، جراء تنطع السلطة السياسية الجزائرية التي سعت إلى إتلاف حقائق التضامن المغربي. فقد تحولت المسألة إلى عقدة لازمت التصرفات الجزائرية، بهدف شطب هذه الحقائق.. وإلا كيف يمكن تفسير الإصرار في التنكر لها.
ليس الجحود سلوكا يقتصر على الأفراد والجماعات، فهو يكون أكثر خطورة عندما يمس سلوكات الدول التي يفترض أن تتعالى على كل الحساسيات. ومن ابتلي بجار عنيد في تنكره وانعدام وفائه، لا يمكن إلا أن يتعايش مع سلوكات خارج المألوف في العلاقات بين الأفراد والمؤسسات والدول. إلا أن التنبيه إلى المزالق من شيم النبل والشهامة والإيثار.
لم يغترف أي رئيس جزائري من معين الكلام الجميل حول مراحل الكفاح المشترك بين المغاربة والجزائريين، أكثر مما فعله عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يدبج خطبه ورسائله بيده. غير أنه خارج المواسم البرتوكولية التي لا يكون لها أي امتداد على الأرض، يتحدث بصوت آخر. ولم يواجه المغرب غلوا في التنكر والجحود، كما سطر المسؤولون الجزائريون الذين عاشوا بين كنفه، ارتووا من مائه وتدثروا بدفئه.
روى الدكتور عبد الكريم الخطيب أنه كان ممددا على فراشه في غرفة في فندق في العاصمة الجزائرية، يتأمل في ثنايا الموقف الذي صدر عن مسؤولين جزائريين أثناء حضوره احتفالا رسميا، فطرق بابه الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة، كان برفقته عبد العزيز بوتفليقة الذي اختار بعد الاستئذان أن يجلس إلى حافة سريره.
قدم بن بلة أعذارا غير مقبولة حول تجاهله للدعم الذي قدمه المغرب إلى الثورة الجزائرية، وقال إنه تعمد، في خطابه إبان افتتاح الاحتفالات، أن يذكر البلدان البعيدة التي ساعدت بلاده، لأنه يعتبر المغرب والجزائر «بلدا واحدا»، وتدخل بوتفليقة لإشاعة نوع من الالتباس، مؤكدا أن الرئيس بن بلة تحدث عن الدول التي قدمت الدعم لبلاده قبل استقلال المغرب.. فرد عليه الخطيب: «هل كان في الإمكان تصور استقلال الجزائر دون تضحيات المغاربة؟».
امتد النقاش وقتا أطول، وتمسك الوفد المغربي بمغادرة الجزائر، لأنه طعن من الخلف من إخوة بادلهم حلو ومر الطعام ورفقة السلاح والكفاح. وكي يخفف من وقع انسحاب الوفد المغربي، أكد أنه اتخذ موقفه من دون الرجوع إلى مشاورة الحكومة المغربية التي كان يشغل فيها منصب وزير الشغل.
هل تذكر بوتفليقة في ذلك اللقاء الذي كان مؤشرا بالمسار الذي ستنحو إليه علاقات بلاده والمغرب، أن أول جواز سفر مغربي حمله من أجل التنقل في العواصم العالمية، تسلمه بمبادرة من وزير الشؤون الإفريقية المغربي عبد الكريم الخطيب؟ وهل تذكر الرئيس أحمد بن بلة أن أول مبادرة صدرت لفك الإضراب عن الطعام الذي كان نفذه ورفاقه المعتقلون في فرنسا، على خلفية اختطاف الطائرة المغربية التي كانت ستقلهم من الرباط إلى تونس، جاءت من الرباط؟
تؤكد الوقائع أن وفدا مغربيا شارك فيه كل من الزعيم علال الفاسي والمستشار أحمد رضا كديرة والدكتور عبد الكريم الخطيب، في حضور السفير المغربي في باريس محمد الشرقاوي، كان توجه إلى باريس للاجتماع إلى الرئيس الفرنسي الجنرال دوغول، من أجل رفع الإقامة الجبرية عن زعماء الثورة الجزائرية، وأنه تلقى وعدا حازما من السلطات الفرنسية، ما دفع زعماء الثورة الجزائرية إلى تعليق إضرابهم عن الطعام.
في الوقائع أيضا أن أولئك القادة اختاروا العودة إلى الجزائر عبر البوابة المغربية، فقد أقيم لهم استقبال رسمي وشعبي حاشد في الرباط، توجهوا على إثره إلى وجدة لتفقد معسكرات تدريب الثوار الجزائريين، قبل أن يدخلوا الجزائر على متن سيارات مغربية.
قبل أقل من عام على اندلاع حرب الرمال، قال الرئيس أحمد بن بلة كلمته التي استثنت المغرب، من مجرد الاعتراف بجهوده الشعبية والرسمية في دعم الثورة الجزائرية، وكان ذلك في مقدمة الأسباب التي حذت بالوفد المغربي إلى الانسحاب.
ثم توالت انسحابات على مقاس تشنج المواقف الجزائرية، ولم تجد الجزائر في نهاية المطاف بديلا عن إقفال الحدود البرية كنوع من «اللاعتراف» بالخير الذي كان يأتي من الشريط الحدودي المشترك.