
شامة درشول
تناثرت أخبار عن مخابز نشرت في ليلة الميلاد المعروفة بليلة الكريسماس إعلانا تقول فيه إنها لن تقدم حلويات رأس السنة، وجاء هذا الإعلان في قصاصة ألصقت على باب إحدى المخابز، وبررت في منشور على «فيسبوك» أنها تملك كامل الحرية في عدم بيع هذا النوع المخصص لهذا الاحتفال السنوي.
خبر تداولته بحرارة بعض المواقع، كما تبارى المحسوبون على التيار العلماني في مناهضته، في الوقت الذي شاهد فيه أولئك الذين يحاولون أن يمسكوا العصا من الوسط سلوكا لا يمت للمغاربة بصلة. لهؤلاء بالذات، لهذه الفئة التي دوما ترد بالقول إن هذا السلوك ليس من شيم المغاربة، وهذا التصرف ليس من خصال المسلمين، أقول لهم «من أنتم؟».
وقبل تفسير السبب في طرح هذا التساؤل، أشير هنا إلى أن هذه المخبزة، أو المخابر التي نشرت هذه القصاصة كل ما فعلته أنها قامت بدعاية عن نفسها، ومن لم يكن يعرفها بات يعرفها، ويتحدث عنها، يقول منظرو فن الدعاية «ليس السيئ أن يتحدثوا عنك بسوء، بل الأسوأ ألا يتحدث عنك أحد مطلقا ولو بالسوء»، لذلك أعتبرها دعاية ناجحة منهم، وأعتبر ما قاموا به يدخل في صنف «البيزنس الحلال»، الذي يدر أموالا طائلة، والذي لا يخرج ما فعله هؤلاء عما يفعله آخرون في أوروبا، وباقي دول الغرب، حيث يكتبون على مدخل محلاتهم التجارية كلمة باتت مدرة للربح اسمها «حلال»، بل إن كثيرين ممن يديرون هذه المحلات، أو يملكونها لا يكونون بالضرورة مسلمين، بل كثير منهم يكونون من ديانات أخرى، أو حتى لا يدينون بشيء إلا ديانة البيزنس ولو في الحلال.
لذلك، لنهدأ قليلا، ونتريث، قبل أن نرمي أي شيء، وكل شيء بتهمة الدعشنة، وإلا سنكتشف أننا نحن بدورنا مجرد دواعش مهما بدا منا من انفتاح فكر، وسلوك. لنتأمل محيطنا، وننصت جيدا، وسنعرف أن الدواعش ليسوا بظاهرة جديدة عنا، بل هي جزء من تفكيرنا وجد بيئة دافئة ينبت فيها وبشكل خاص في المدن، والتي هي في الحقيقة مجرد قرى تحمل اسم مدينة.
«الدعشنة» ليست حديثة العهد في المغرب، الدعشنة هي إقصاء للآخر الذي لا يشبه النمط الذي نريده أن يكون عليه، وحين دخل العرب المسلمون إلى المغرب، عاشوا صراعا مع سكان البلاد الذين كانوا يعيشون في جو من التعايش بين ديانات ومعتقدات مختلفة، والصراع مع «ديهيا»، أو «الكاهنة» كما لقبها العرب المسلمون لم يكن فقط صراعا على السلطة، أو ضد دين جديد، بل كان صراعا بين ثقافة اعتمدت ألوانا مختلفة ضد ثقافة جديدة تريد فرض لون واحد فقط.
نغفل التأمل في هذا الجانب من التاريخ، حتى ونحن نتعلم في حصص التاريخ أن الدول في المغرب بداية من الدولة الإدريسية تقوم على عنصرين مهمين وهما «الدعوة والعصبية القبلية»، ومنذ ذلك الوقت والدين بات عنصرا أساسيا في أي لعبة سياسية على أرض هذا البلد، وعلينا أن نتذكر اليوم الذي استغاث فيه الأندلسي «المعتمد بن عباد» بيوسف بن تاشفين لينقذ مملكته من المسيحيين الإسبان، وكيف تذكر كتب التاريخ أن يوسف وأصحابه أصيبوا بصدمة وهم المتقشفون، المتدينون، حين وقعت أعينهم على ما رأوا فيه بذخا وترفا يعيث فيه مسلمو الأندلس، ورأوا فيه بابا من أبواب جهنم، وسببا في غلبة النصارى عليهم، اقرؤوا هذا المشهد من تاريخنا حتى تفقهوا أن «الداعشية» هي فكرة تصر على البقاء على قيد الحياة، وليست ظاهرة نبتت حديثا.
أنصتوا جيدا لكلام جيرانكم، لحديث الجارات، لما تتداوله النساء في الحمام، لما يخبرك به سائق التاكسي، ويحدثك عنه صاحب المقهى، ويحاججك فيه صحبك، ولن تفاجأ أنهم، وأنك أنت أيضا، تملك الكثير من ترسبات الفكر الداعشي الذي ينتشر في المدن بشكل أكبر من القرى، والآن تنفتح شهية البعض من أجل نشره في القرى، في البوادي، كما كان يفعل مغاربة الأمس، حين غضبوا من الأدارسة، وأتاهم شيخ درس على يد شيخ آخر أتى من بلاد الحجاز، ودعاهم إلى دين غير الذي يسير عليه الأدارسة، وهاجروا إلى مكان أعلى اختلوا فيه بعيدا عن «فساد» الأدارسة، وهناك رابطوا ينتظرون ميعاد النزول إلى حيث هؤلاء القوم الضالون الذين تجب محاربتهم، تقول كتب التاريخ التي لا نحب أن نطلع عليها خشية أن نكتشف أننا لسنا سوى أحفاد هؤلاء.
جدتي زهرة وجدي أحمد اللذان ينحدران من قبيلة يهودية بدكالة قبل أن يسلم أهلها، كانوا يصلون، ويذكرون الله، ويرفضون النميمة لأنها أذى، ويخبرني والدي عن جدتي شامة المصمودية، وجدي التهامي الذي كان فقيها في وزان، وكيف أنهم كانوا يستقبلون في بيتهم جيرانهم اليهود دون أن يقض ذلك من مضجعهم. لكن في زمني أنا، كان الجيران يلعنون أم كلثوم لأنها تغني والغناء حرام، ويشفقون على أسمهان لأنها ماتت دون أن تضع الحجاب على رأسها، ويفرحون للممثلة المصرية مديحة كامل أنها أصيبت بالسرطان، لأنه كان سببا في أن تهتدي وترتدي الحجاب، ويرفضون تزويج بناتهم إلى أجنبي، حتى لو أعلن إسلامه لأنه في عرفهم المسلم عليه أن يكون عربيا، لا يختلفون في هذا عن اليهود، الذين يعتبرون ديانة موسى ملكا لأبناء إبراهيم من سارة فقط، وكثيرا ما صادفت نساء رفضن أن يشربن من نفس الكأس التي شربت منها سائحة، فقط لأنها «نصرانية»، وفي عرفهم هي كافرة، ولا تجوز مشاركة الطعام مع الكفار، بل إني أذكر كيف أقمت الدنيا وأقعدتها في جدال عقيم مع ابنة عمي، وهي داعية منقبة كانت تلقي الدروس الدينية في المساجد، لأنها قالت لي إنها ترفض أن تشارك نفس الطبق مع نصرانية لأنها كافرة، وإن هذا حرام.
تأملوا جيدا في أنفسكم، في محيطكم، في أحاديثكم مع مقربيكم، في ما تدرسون، وما تفكرون فيه، وكيف تفكرون فيه، في تاريخكم، وستجدون أنفسكم تردون على هؤلاء الذين يحاولون التبرؤ من أصحاب منع الاحتفال برأس السنة «من أنتم؟».