ممارسة التدريس(10 /10)
المراهقة
طور من أطوار الحياة، يتخوّف منه الكثيرون، و يَسِمُه آخرون بسنّ الطيش و التهوّر و يعتبرونه سنا حسّاساً له تأثير محوري على مناحي الحياة و مفترق طرق قد يغيّر المسار بدرجة كبيرة. كما أنّ له توصيفاً بكونه سنّ الفتوّة و الإقدام و البلوغ و التكليف و انبعاث الشخصية و تميّزها و تفجّر الطاقات المختزنة و الملكات الذاتية و القيمة المضافة الفردية التي أودعها الخالق سبحانه و تعالى في كل إنسان.
جزء كبير من مرحلة المراهقة يُعايشه الممارس للتدريس مع تلامذته خاصة في الثانوي التأهيلي و السنة الأخيرة من الإعدادي و تكون المرحلة المحورية عامة في النصف الثاني من سنة الجذع المشترك و النصف الأول من السنة الأولى بكالوريا، هذا على العموم مع تمايز و اختلاف بين الجنسين.
تظهر على التلاميذ عند دخولهم هذا الطور تغيرات متعددة، جسمية و عقلية و سلوكية، على الممارس ملاحظتها و الانتباه لها و التعامل معها بما يلزم من يقظة و تبصّر و حذر و صبر و تحمّل و طول بال، و توقُّعٍ لكلّ جديد مفاجئ من تصرّف أو قول أو لباس أو انفعال، أو تفتّق لمواهب جديدة أو انحدار في الدراسة و شرود عن التركيز إلى غير ذلك من الأمور التي يكفي الانتباه لها لاستبيان غير ما ذكرناه من أمور أخرى.
إن انبعاث الشخصية الفردية و تميّزها يصاحبه اعتزاز أكثر بالنفس و ردّ فعل حاد و اهتمام أكثر بالمظهر الخارجي و رغبة متزايدة بالتميّز عن الآخرين في أشياء مختلفة و تطلّعاً مختلفاً نحو الجنس الآخر و تغيّراً كبيرا في طريقة التعامل و التفاعل معه و العلاقة معه. كلّ هذا قد يسلو عن الدراسة و قد يؤثّر سلبا على مسارها كما يمكن أن يصبح حافزا للإقبال عليها و النجاح فيها، و هنا يبرز دور الممارس في محاولة جعل هذه التغيرات الكبيرة و الطاقات المنبعثة تسير في مجرى صحيح و مسار سليم.
يُستحسن من الممارس للتدريس الابتعاد عن إصدار الأحكام الجاهزة القطعية في حق كل مظهر مخل أو لباس غير لائق أو تصرّف غير سليم، فهي أمور قد تكون ظرفية مردّها الزوبعة الداخلية التي تحيط بالمراهق أو المراهقة، و كلّما كانت اللباقة في التعامل و حُسن الإنصات و قبول العذر و احترام الشخصية و تقدير الإنسان كلّما تفادى أيَّ ردّ فعل غير مقبول و كلّما سمح بتقريب المسافة بين الطرفين في حدود التقدير و الاحترام و بالتالي قبول النصح السديد و الكلام المنطقي المعتدل السليم.
إن سلطة الخوف و العقاب و هامشهما يضمحلّان بشكل كبير في هذه المرحلة على العموم، و لا يُجديان نفعاً لمن يجعلهما أداته المحورية في علاقته مع المتمدرسين، و يحلّ محلّهما سلطة الإقناع و الاحترام و التقدير و التعامل الإنساني العادل المحافظ على كرامة المخلوق و هي سلطة كبيرة تحلّ كثيرا من العقد و تعطي صلاحيات أوسع للممارس تعطي فعاليةً مجرّبةً في كل نصح مقدّم.
قد يصاحب هذا الطور تعلّقا مفرطا للتلاميذ بشخصية الممارس، عليه الانتباه له و التعامل معه بتعقّل و حذر و تبصّر و اعتدال و حُسن التخلّص و طول البال. و هو ليس بالضرورة من جنس لآخر و ليس في الضرورة لنية سيئة، بل كونه إفراطا و خروجا عن الاعتدال هو الدليل على كونه أولا ظرفي و ثانيا أنه انعكاس لمخلّفات المراهقة و تأثيراتها، و قد يستطيع الممارس توظيفه للعطاء الأفضل في الدراسة و إخراج التعلق بشخصه إلى التعلق بالمادة المدرّسة و بالدراسة عموما
إنه موضوع مركّب شائك، متعدّد الجوانب، حسبُنا أن تحدّثنا عنه، و أمطنا اللثام عن جوانب منه، في غياب دراسات ميدانية حقيقية رزينة لواقعه في مؤسساتنا التعليمية و في غياب وجود مختصين في المدارس يواكبون انعكاسات هذا الطّور و يتابعون التلاميذ بشكل مفصّل دقيق، و المؤسف أن جلّ ما يتمّ هو الزجر و العقاب و معايشة الانحراف الأخلاقي و الإدمان على أصناف من المحرّمات و التخلّف الدراسي الكبير، بعيداً عن المصاحبة الوقائية السليمة الرشيدة لا في البيت و لا في المؤسسة و لا في المجتمع و لا في الإعلام. و لا تكوين متجدّد فعّال للأساتذة الذين يُعايشون التلاميذ في مختلف الأطوار الصعبة من هذه المرحلة فيجتهدون من أنفسهم طرقا قد تجدي أحيانا و قد تكون وبالا و تزيد الأمر تعقيدا في أحيان أخرى.
الجحود
شعور حارق مقيت بغيض صعب، قد يتعرّض له الممارس الحيّ المرهف الإحساس فيحيل البياض سوادا، و يؤثّر بشكل كبير على نفسيته و على صحته و على فعالية عمله و على حبّه لمهنته و على علاقته مع الآخرين، و هو غصة و حرقة تسري في الجسم كما يقع مع المعدة و المريء.
و أنواع الجحود مختلفة المشارب و المصادر، و كلما كان من عزيز قريب كان تأثيره أكبر و تداعياته أعظم، و قد أصبح طبْعاً عند الكثيرين بسبب اختلال منظومة القيم في المجتمع و استشراء الوصولية و النفعية و حب الذات و تعامل الغاب، كما أن أسس التربية الأسرية و أسس التواصل و أسس الأخلاق السليمة و أسس شكر المعروف و أسس أدب الأفراد فيما بينهم كلها أصابها وَهَن كبير و تصدع كبير في أصل بناءها و منطقها السليم.
هناك مواقف قد يتعرّض لها الممارس للتدريس توصيفها الصحيح هو الجحود، فقد يصادف تلميذا في الطريق فلا ينظر إليه و لا يسلم عليه كأنه لم يعرفه قط رغم العلاقة الحسنة التي جمعتهما طيلة سنة الدراسة، و قد لا يسمع كلمة شكر على أي خدمة يوفّرها لتلميذه في السنة الدراسية، و قد يتعرّض لكلمة جارحة أو إهانة ( أو في حالات متقدمة إلى سب و قذف و تهجم جسدي ) بسبب أي تدخل له لإعادة الأمور إلى نصابها إما في صد غش أو حثّ على الانتباه أو غيرها دون مراعاة لقيمة الأستاذ و ما قدمه من تضحيات، و هذه أمثلة معبّرة لكنها غير حصرية و من يتأمل الوضعية تبرز ماثلة أمامه أمثلة أخرى عديدة و متنوعة؛ و أصنف هذا الجحود بكونه الأقسى لأن التلميذ هو الأقرب في اهتمام الممارس الحيّ و هو الذي أخذ منه جهدا مضنيا و عناءً كبيرا في تدريسه و الحرص على مصلحته و متابعة شؤون دراسته.
و لا بد للإشارة إلى جحود بعض أولياء الأمور و جحود بعض أطر الإدارة و جحود
المجتمع و الإعلام و جحود بعض القيمين على شؤون التعليم فيما يكيلون لصرح الأستاذ من أوصاف و تهم و تعميم جائر ظالم لكل خلل في منظومة التعليم، و قد أشرنا لذلك في مقال سابق عنوانه: أذى المسار.
إن كل ما قلناه يستشعره كل ذي ضمير حي، و يتعرض له بنسب معينة و يؤثر لا محالة عليه بنسب معينة أيضا تتفاوت حسب طبيعة الشخصية و جنسها و سن الممارس و حساسيته. و عدم مقاومة هذا الإحساس تكون له عواقب سيئة، فلهذا لا بد من التعود على الاحترافية الجافة في التعامل، و التجرد في العمل، و استحضار المعنى الشرعي للإخلاص في العمل و هو بُغية التقرب إلى الله وحده، و حينها يستوي المادح و الذامّ، و الجاحد و الوفيّ، و الناكر و المعترف بالجميل، و تنتفي حالة الحساسية مع المخلوق إلى حالة التقرب إلى الخالق سبحانه و تعالى و أظن ذلك دواء نافعا مجدياً إن شاء الله.
استقراء للرأي
وسيلة تربوية مجرّبة، مفيدة في استبيان نتيجة و حصيلة السنة الدراسية، و كذا طبيعة و انطباع كل تلميذ، و أداة للبوح و الإفصاح عن كل ما بداخله إيجابا و سلباً، يُتيح المجال لتعديل و ضبط بعض الأمور في ممارسة التدريس و توضيح و تفسير بعض التصرفات و القرارات المتخذة، يمكن عبره معالجة بعض الاختلالات، كما أنه حافز و مشجع لمتابعة
المسار على هدى و صلاح، له دور إيجابي في تمتين العلاقة بين التلميذ و الأستاذ.
يُستحسن أن يكون عند المعالم الأولى لنهاية السنة الدراسية حتى لا يقع التلاميذ تحت طائلة ضغط الفروض المحروسة و تحكّم الأستاذ فيها، و أن تكون الأسئلة شاملة لجوانب المادة و متعلّقاتها، و أن يكون بها هامش لحرية التصرف تتيح التعرّف على طريقة تفاعل التلميذ و أسلوبه التعبيري و مكنونات ما عايَشَه طيلة السنة من أشياء استحسنها و أخرى لم يتقبّلها و علاقته مع الآخرين و مع المقرّر الدراسي و مع الأستاذ.
هو مرآة عاكسة لمسيرة الممارس طيلة سنة دراسية كاملة، و له مصداقية كبيرة في عموم المجموعة مع بعض التطرف الإيجابي أو السلبي الذي قد يصادفه في بعض الإجابات، فرغم قلة تجربة التلاميذ و قصور سنّهم إلا أن ما يفصحون عنه على العموم يعكس بشكل كبير الواقع الحقيقي، كما أن مضمون كلماتهم خارج سياق التركيب اللغوي يكون عميقا وازناً على العموم و يُجلّي أموراً قد تفاجئ الممارس.
يستطيع عبره الممارس معالجة بعض الأمور المغلوطة عند فهم و تصوّر البعض أو سوء تفاهم أو خطأ في التعامل غير مقصود أو اختلال في العلاقة بين التلاميذ فيما بينهم و لو في آخر السنة الدراسية، فالإصلاح غاية في حد ذاته و التوفيق من الله.
كلّ مديح صادق متوازن هو وسام فخر و شهادة تقديرية لها وزن كبير عند كل ذي ضمير حي، يشجّع على مزيد من العطاء و الإبداع، و له وقع نفسي كبير، و سراج منير لمتابعة الطريق و أداء الرسالة بزهوّ و اعتزاز، خاصة عندما يكون المحيط الخارجي مستهزئا بالمهنة و ممارسيها و منتقصا من كفاءتهم و متهما لمنتسبيها على التعميم كما هو واقع الحال.