نهاية الأسبوع الذي ودعناه، نشرت صحيفة «الواشنطن بوست» العريقة، مقالا «امتدحت» فيه مدينة طنجة ومقاهيها، التي قالت عنها إنها لا تُضاهى، وألا مدينة مغربية أخرى تستطيع أن تُنافس ثقافة المقاهي الشهيرة في عاصمة البوغاز.
بالنسبة إلينا نحن المغاربة، فإن هذا الأمر طبيعي للغاية. طنجة من أوائل المدن التي انتشرت فيها المقاهي، ليس في المغرب فقط، وإنما في إفريقيا كلها والعالم العربي والإسلامي.
نتحدث عن رصيد يتجاوز قرنين من الزمان، افتُتحت خلالهما الفنادق والمقاهي في المدينة، واستقبلت السياح والمسؤولين والسياسيين، وحتى العسكريين الذين جاؤوا مُشهرين أسلحتهم إيذانا بالحرب.
الصورة التي نشرتها الصحيفة الأشهر في العالم، والتي يقرأها الملايين يوميا، التُقطت في السوق المركزي، في مكان تلتقي فيه أقدم المحلات، مع زقاق يفضي إلى منازل المدينة العتيقة، حيث توجد المنازل التي كانت سابقا قنصليات ومكاتب للدبلوماسيين الذين مثلوا بلدانهم في المنطقة الدولية، قبل أكثر من قرن ونصف القرن.
وهؤلاء اعتادوا أن يشربوا قهوتهم في الساحة، قبل أن ينصرفوا إلى مزاولة مهامهم.
المقال وقعه الباحث الأمريكي «غراهام كورنويل»، وهو كاتب متخصص في تاريخ شمال إفريقيا والقضايا الاجتماعية والتاريخية للمنطقة، وخريج معهد السياسات الدولية، ومؤرخ. وتحدث فيه عن انطباعات كُتاب كبار عن ثقافة المقاهي في طنجة، والمغرب عموما. وأدلى بشهادة الكاتب الإسباني الشهير خوان غويتيسولو، الذي وصف طنجة بأنها «مدينة مفتوحة على مصراعيها بكل ما تحمله الكلمة من معنى».
ثقافة المقاهي انتشرت منها إلى كل مناطق المغرب الأخرى. صحيح أن المغاربة – الأغنياء والأعيان- لم يرتادوا المقاهي إلا بعد فترة الحماية، إلا أن ثقافة الجلوس في المقاهي أصبحت أكثر شعبية في مرحلة الأربعينيات والخمسينيات. عندما بدأ المغاربة الأولون يشتغلون في المعامل، ويلجؤون إلى المقاهي في المساء، للنقاش وتبادل أطراف الحديث والخوض في مشاكل الحياة اليومية.
جرّب فلاسفة وأدباء عالميون التدخين وشرب القهوة في شوارع المدن المغربية وتأمل المارة، وكان ذلك أفضل تمرين نتج عنه تأليف روائع عالمية. وهناك من كتبوا عن تجربة اكتشاف شمال المغرب، قبل ستين عاما، وحصدوا إعجاب قرائهم الذين اعتبروا أنهم غامروا فعلا واستكشفوا القارة الإفريقية.
المقال تضمن أيضا جردا لأشهر المقاهي في مدينة طنجة. مقاه عتيقة يعود تاريخها إلى ما قبل سنة 1880، وأخرى إلى مرحلة الحماية الفرنسية. وربما هناك مقاه ظهرت واختفت لتسقط إما سهوا أو عمدا من الذاكرة الجماعية، سيما وأن بعض المحلات التي كانت مقاه في السابق، أثارت شهية «صائدي العقارات» الذين يهوون تحويل كل متر إلى محل تجاري تتراكم فوقه الشقق.
بالتأكيد، هناك سياح في أقاصي العالم، سوف يضعون مدينة طنجة على رأس قائمة الأماكن التي سوف يقصدونها في عطلتهم المقبلة، فقط لأنهم اطلعوا على مقال «الواشنطن بوست». وما تؤكده الصور الكثيرة، المرفقة بالمقال، أنهم سوف يجدون تماما ما رأوه، وقد يعيشونه بطريقتهم الخاصة، وقد تظهر لهم خفايا لم تظهر لكاتب المقال نفسه، ما دام «غويتيسولو» قد قال يوما إنها مدينة مفتوحة على مصراعيها، ولم يقل هذا الكلام عن مدن بلده الأم، إسبانيا، التي لا تبعد عن هذه المقاهي إلا بمسافة أربعة عشر كيلومترا فقط.
فهل السر في القهوة، أم أن الوقوف في الضفة الإفريقية وتأمل البحر المتوسط، يختلف تماما عن الوقوف في الجهة الأوروبية لتأمل الميناء؟
إنها «عادات» القهوة المغربية، ربما، ما تجعل هذه المقاهي تسحر أكاديميا أمريكيا ليكتب عنها مقالا مفصلا. لكن أصوات المغاربة وسجائرهم والكلمات المتقاطعة التي يحلها الجميع بالتناوب، هي ما يجعل هذه المقاهي منارة في مضيق جبل طارق، ومنه إلى العالم.
يونس جنوحي