
طيلة ثلاثة عقود، سجل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الغرابة بصمة سياسية عالمية باسمه حصريا، ليس فقط على مستوى أسلوبه في حكم الليبيين وتدبير شؤون الدولة، ولكن أيضا على المستوى الخارجي، حيث لا توجد حرب أهلية أو صراع حدودي بين دولتين إلا وكان القذافي داعما لأحد أطرافه بالمال والسلاح والمرتزقة، من دعمه لعيدي أمين الأوغندي ضد غريمه التنزاني جنوبا، إلى دعم إيتا الباسكية والجيش الإيرلندي شمالا، ومن دعم الثوار التاميل في جزيرة سيريلانكا في أقصى آسيا، إلى دعم «ثوار» غواتيمالا في أقصى أمريكا الجنوبية، حيث حرص القذافي دوما على أن يكون اليد الخفية التي تمول الصراعات والحروب، ولعل دعمه للصرب في مجازرهم التي ارتكبوها ضد مسلمي البوسنة والهرسك هو أكثر المواقف إثارة للصدمة في صفوف العرب والمسلمين.
من الخيمة إلى الخيمة
على مدار أربعة عقود من الزمن، حكم معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي ليبيا، وسيطر خلالها على الثروة والسلطة والنفوذ الذي تجاوز حدود ليبيا، فزرع أكثر من أزمة وصراع عابر للحدود في أكثر من بلد وإقليم وقارة.
أولع معمر القذافي بالبادية وارتبط بها وبمظاهرها وفضائها الحر المفتوح، وكان يحمل خيمته في طائرته لينصبها في المحافل الدولية الكبرى التي يدعى إليها، ويصطحب معه نوقه الحلائب ورعاته المكلفين بخدمتها، ولعل حرصه على نصب خيمته في حديقة الإليزيه، أكثر المواقف إثارة للاستغراب على الإطلاق.
أما في ليبيا فقد كان القذافي يقيم كثيرا من وقته في خيمته الواسعة التي ينصبها في صحراء سرت، أو في بهو قصوره المختلفة، وفيها يستقبل ضيوفه الكبار ويعقد المؤتمرات، ويخطب الساعات الطوال موزعا حِكَمه وفلسفته وشتائمه وأفكاره على العالم، وفي أحيان كثيرة كان ضيوفه يعيشون ليالي الرعب عندما يبدأ رغاء الإبل يشق صمت الليل، وحينما تفرض عليهم البروتوكولات الغريبة للقذافي النزول في إقامة فندقية من طراز خيمة نجوم.
كانت أفكار القذافي تثير جدلا واسعا في العالم، خصوصا أنها تحفر في جذور الغرائبية والإثارة مستقرا ومستودعا، وخصوصا نظرية الجماهيرية التي حاول تفسيرها على أنه نظام حكم ليس بملكي ولا جمهوري، وإنما هو نظام حكم الجماهير نفسها بنفسها، مؤكدا أنه ليس برئيس ولا حاكم، وإنما الشعب هو الذي يحكم بنفسه عبر المؤتمرات الشعبية التي هي مصدر التشريع واللجان الثورية التي هي الجهة التنفيذية. غير أن الأمر آل في النهاية إلى تعطيل أجهزة الدولة كلها، وجمع كل مقاليد الحكم والثروة والنفوذ والتفكير السياسي في يد القذافي، وثلة قليلة من أفراد أسرته ومقربيه.
وقد حاول القذافي تفصيل رؤيته لنظام الحكم الجماهيري في كتابه النظرية العالمية الثالثة الذي عرف باسم الكتاب الأخضر، وتحول مع الزمن إلى دستور ليبيا الرسمي، ليحل محل دستورها الذي عطله القذافي، كما عطل كثيرا من وسائل التفكير وآلياته عند الليبيين. ورغم أن القذافي أعلن تخليه عن السلطة سنة 1977 عبر إنشاء المؤتمرات الشعبية، فإنه ظل الحاكم الديكتاتوري الأقوى في تاريخ ليبيا إلى حين مقتله سنة 2011.
خطب الهجاء والشتائم
خلال سنوات حكمه الأولى اختبر القذافي شكلا من أشكال الوحدة مع النظام الناصري في مصر، عندما وقعت ليبيا والسودان ومصر اتفاقا للوحدة والتكامل سنة 1969، ولم يكن السعي الوحدوي لدى القذافي أكثر من إشباع لنزوة الحكم الواسع والسيطرة العابرة للحدود، ولذلك ظل مشروع الوحدة حاضرا في مختلف مراحل حكمه الأربعينية.
غير أن أحلام القذافي في وحدة عربية واسعة يقيمها في بساط الملك وعرش الزعامة، اصطدمت بواقع عربي مضطرب جدا مستعد لاختبار أي جديد سوى الوحدة والتكامل، كما أن الوحدة تحت أفكار وزعامة القذافي، كانت أشد صعوبة من استيعاب مضامين الكتاب الأخضر، ومن ثم اصطدم طموح القذافي بصخرة الواقع الذي يصعب تذويبه تحت عباءة «الفاتح»، فأطلق القذافي لسانه وأذرعه خلال العقدين الأخير من حياته على العرب، فنفذ عدة محاولات لزعزعة الأمن في دول عربية متعددة، وهاجم الزعماء العرب أكثر من مرة، وقطع علاقاته مع دول عربية متعددة، وحول مؤتمرات الجامعة العربية في أكثر من مرة إلى منصة للهجاء وتوزيع الشتائم على الزعماء والملوك.
توجه القذافي إلى إفريقيا بعد أن فشل في تطويع العرب لعالمه وأفكاره، ووجد الأفارقة في القذافي نهر أموال جارف يمكن استنزافه بسهولة، وعبر الإذعان لقراراته ومواقفه التي لا تغير شيئا من السلطة المحلية للديكتاتورية الإفريقية العتيقة، ففي إفريقيا وجد القذافي «الإيمان الأعمى» بكل ما يدلي به من أفكار، فنصب نفسه «ملك ملوك إفريقيا».
غرائب القذافي لم تكن سياسية فقط، بل حرص على «الاجتهاد» في الدين أيضا، ومن أفكاره التي دافع عنها رفضه للسنة النبوية واكتفاؤه بالقرآن فقط، حيث نال الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه نصيبا وافرا من شتائم القذافي واتهاماته له بالكذب.
ولم يكن رأي القذافي في السنة أكثر آرائه المعرفية غرابة، بل رمى بسهم في حياض الأدب الروائي عبر سلسلة من القصص والروايات، التي نالت كثيرا من الاحتفاء والأوسمة والنقاشات داخل مجامع أنصار القذافي ومحافلهم.
ولم تكن «إسراطين» أكثر من محاولة قذافية لاختبار نموذج آخر للسلام بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، عبر إقامة دولة إسراطين، وهي اسم منحوت من أول بداية إسرائيل ونهاية فلسطين. ورغم محاولة القذافي تسويق مقترحه، فإنه ظل سابحا في أمواج الكوميديا مرفوضا من الطرفين.